صندوق العَجَب

نظرة

آمنة الربيع

بين صندوق العجب والممثل يحيى الفخراني صلة ما. هو لا يملك مقومات فتى الشاشة الوسيم الذي تتصارع عليه النساء الفاتنات، لكنّه يستطيع أن يكون الرجل الذي تلتفتُ إليه المرأة. وفي عالم فنيّ غير مثالي، كل ممثل يسعى لترك بصمة، فيكون الحرص على انتقاء الدور الذي يوقظ إحساسه بالتمثيل نزعة متصاعدة في داخله هدفها كما أرى التأكيد على استمرارية التمثيل المختلف، وهذا المختلف لا يظهر إلاّ في الاختيار النوعي للشخصيّة الفنيّة.

هل تذكرون هذا السؤال: ما الذي يبقى في ذاكرتنا من الممثل؟ يستدعي صندوق العجب العديد من الشخصيات الفنيّة لمسلسلات قدمها الفخراني وكانت ناجحة. نذكر مثلا: ليالي الحلمية، لا، نصف ربيع الآخر، زيزينيا، أوبرا عايدة، للعدالة وجوه كثيرة، الليل وآخره، عباس الأبيض في اليوم الأسود، سكة الهلالي، شيخ العرب همام، الخواجة عبدالقادر، ودهشة. وقائمة الأفلام تطول فيمكن الاستشهاد بفلميِّ الكيف وخرج ولم يعد، أما مسرحيًا فالملك لير هي الأقرب إلى قلبي وذائقتي.

الفخراني ممثل بارع، يغوص في أعماق شخصياته. في أدواره التي يختارها وينوّع فيما بينها يضع المتفرج في مشاعر مختلطة ومتناقضة، فيها من الرحمة والشفقة، بمقدار ما يساويها من الخوف والرهبة. كما إن له شكله التمثيلي الخاص في خفة الظل، فالفخراني الذي لعب في مسلسل عباس الأبيض في اليوم الأسود، بمواقف كوميدية وضعت أمامه العراقيل فأبهجتنا عراقيله كلها، هي غير خفة الظل السّامة أو المُدمرة التي يضعها أمام عائلة ياقوت في مسلسل ونوس، والذي يُعرض حاليًا في شهر رمضان بتوقيع كاتب السيناريست والأديب عبد الرحيم كمال، والمخرج شادي الفخراني. يُفجّر الفخراني كلّ طاقاته ومخزونه النوعيّ في الأداء، مستعينا بثقافته الرصينة، وتاريخه الفنيّ الطويل لنقبلَ معه على الدراما التي تراوغنا ببعض أفكارها، فإما أن ننصت لصوت الشيطان أو من يقع في حكمه فينكشف ما بداخلنا من لؤم وخبث وطمع وضعف، أو ننتصر لقيم العلم والمعرفة والفضيلة والجمال والخير ونأخذ بناصيتها.

صندوق العجب يحتوي على كلّ أنواع الفنون والأداء، منذ فنون الأشكال العليا وأداءاتها التقليدية المعروفة، مرورا بالضحك والهزل وصولا إلى دراما الشارع الصغيرة والمبتذلة. تكمن طاقة هذا الصندوق أنّه يرفد المتفرجين بمجسّات لا شعوريّة أقرب إلى السحر، وربما من هنا جرى تعريف العَجَب على أنّه الإتيان بشيء لم يُسبق إليه. وهذا على وجه الحقيقة ما يفعله بنا ونوس كمتفرجين، فنراه مسُتظرفًا عَجيبا؛ نجح حتى الآن في أن يجعلنا نقضي وقتا طيبا مع الشرّ!

يتمتع الشيطان بسمعة سيئة ولكنه على الرغم من ذلك فهو يجرّنا إليه. تُرى هل أراد السيناريست إيقاعنا في شرّ ما نتفرج عليه، فنصفق لكلّ ما يخرج من عَجَبٍ عُجاب؟ أم يشحننا لنراجع ينابيع الأخلاق الحلوة التي نسيناها؟

ليتكم تتذكرون معي كلمات الملك لير لابنته كورديليا: "إن يكن لديك سمّ لي، سأشربه. أنا أعرف أنك لا تُحبينني؛ لأن أختيك، كما أذكر، قد ظلمتاني. أنت لك بعض السبب، أما هما فلا". يا لها من كلمات تستدرج شفقتنا قالها الملك لير بأداء متميز ليحيى الفخراني في مسرحية حملت العنوان نفسه؟ كلمات مزركشة حينما يسمعها المتفرج ويقوم بعملية تبديل للأدوار فيجعلها على لسان ونوس لأصابتنا الدَهشة! تأملوها على لسان ونوس وستصلون إلى النتيجة.

ماذا يكمن في التفاصيل؟ إنّه الشيطان. فما نهاية القبح الذي بداخلك يا ونوس؟ وما الوقار الذي ستظل تُخفيه عائلة ياقوت ثم ستنزعه بلا أيّ حجاب؟ هذا ما سيكشف عنه ممثل العجب يحيى الفخراني وهو يسمح في لحظات المشاهد الأخيرة للمسلسل أن يجثم على كل الدقائق القليلة التي أرعبنا فيها شقاءه وبؤسه، حتى كدنا معها ألا ننتبه لثواني الفرح التي تخطتنا بلا عودة.

تعليق عبر الفيس بوك