د.طاهرة اللواتية
في جلسة ودية تشعَّب فيها الحديث عما يجري من تكفير وقتل همجي على الهوية المذهبية لدى داعش وأخواتها، قال لي مَعالي د. عبد الله الحراصي: ألا ترين أن مفردة تعايش غريبة علينا، لكننا صرنا نستخدمها وكأنّها واقع الحال بيننا في عُمان، وصرنا نمتدح بها الوحدة والتآلف بين المواطنين، ثم أكمل مستطردا: هي مفردة ملتبسة وخطيرة جدًا، فالتعايش عملية قسرية بين فرقاء لا يحملون الود لبعضهم ولكنهم يتعايشون كي لا تندلع الصراعات والحروب بينهم. فهل نحن في عُمان على مدى تاريخنا الطويل المُتسم بالسلم والتفاهم والتداخل المذهبي الطبيعي والعفوي، والتزاوج، كنّا متعايشين؟.
شعرت بخطورة لعبة الإعلام الخارجي عندما يمرر إلينا مفردات مُلغمة وخطيرة، ويجعلنا نشعر أنها طبيعية وعادية، فنأخذها على علاتها وبحسن نية شديدة، ونستخدمها في حديثنا اليومي دون أن ننتبه إلى مقاصدها الخبيثة والخطيرة. فما أسهل أن يحطم التعايش في مجتمع ما، وما أسهل تدمير وحدة وطنية كل فريق بداخله مختلف وعدو للآخر لكنه متعايش معه رغما عنه!!
فالأقرب من المفردات الثلاث إلى الحالة العُمانية الفريدة من الوحدة والتآخي، والحياة التلقائية بين أصحاب المذاهب هو العيش، وليس التعايش، فبيننا نحن العمانيين عيش طبيعي ومعايشة تاريخية حميمة، ولذا لم تشهد عُمان طوال تاريخها خلافات أو حروب مذهبية.
ولكن ماذا عن بقية الأمة العربية والإسلامية، وهل كانوا في حالة تعايش قسري أم عيش ومعايشة يومية بينهم؟
ومن أين انحدر إليهم وباء التكفير والقتل على الهوية المذهبية؟
عندما نسمع العراقيون أو السوريون أو اليمنيون من إشقائنا وعن الحالة الداخلية بينهم قبل هذا الوباء الذي ضرب بلادهم نرى أنهم يتحدثون عن العيش والتآلف والمخالطة والوحدة كما نحن في عُمان .
إذن أين كان الخلل؟
إنّها منظومة متكاملة بناها العقل الإمبريالي الاستعماري بكامل قدراته وطاقاته الذهنية والفعلية، فقد انتهت عصور الاحتلال عبر البحار، ولم تعد هناك طاقة ولا أموال للدول الإمبريالية بأن تعيد الاحتلال باهظ الأثمان والتكاليف. لكنها لم تتخل عن أحلام النفوذ على مصادر الطاقة والأموال.
فإذا كان علم الاقتصاد كله أقيم على نظرية آدم سميث، وهي زيادة عدد السكان وقلة الموارد، فهي نظرية تدعو إلى تقليل عدد السكان كي يتواءم مع الموارد النادرة. فإن النتائج الكارثية لذلك أن تتم التضحية بعدد من البشر كي يعيش آخرون. فالوصول إلى الثروة أصبح الغاية الأساسية للاقتصاد. وقد نادى سميث بالفصل بين الاقتصاد والأخلاق، فإذا كان الاقتصاد العالمي قائماً على الميكافلية، فلا شك أنّ النتائج ستكون كارثية أيضًا. والقارة الأفريقية خير دليل وشاهد على انتهاء عصر الاحتلال المباشر، وبدء الحروب الأهلية والإبادات الجماعية وفقاً لمنهج فرِّق تسد، حتى يستفيد الغرب. ونستخلص حقيقة مهمة، ونحن نقرأ عن الإبادات الجماعية التي حصلت في راوندا على مسمع من العالم ومشهد في التسعينيات وما بعدها. فقد كانت قصة بسيطة جدًا تتكرر اليوم معنا. قصة الاحتلال البلجيكي الذي بدأ بالتفرقة الطائفية بين شعب راوندا المكون من قوميتي التوتسي والهوتو. فأصبح يصدر بطاقات شخصية رسمية يضع فيها اسم طائفة الشخص رغم العيش التاريخي المشترك والتزاوج الطويل بين الطائفتين.ثم بدأ بإعطاء الأقلية وهم التوتسي مراكز وظيفية أفضل، قاصداً إثارة نقمة الهوتو. ومع مغادرته للبلد كانت بذرة التفرقة والنقمة قد بدأت تؤتي ثمارها. وأكملت بقية الدول الغربية ذات المصالح القصة، فقد تم تكوين مليشيات من الفريقين ودججت بالسلاح والسواطير!؟ ثم شهدنا النتيجة، مذبحة طالت أكثر من مليون توتسي بالقتل والتقطيع بالسواطير استمرت أكثر من ثلاثة أشهر. واستمر مسلسل القتل إلى اليوم في الداخل ومع الجيران، وحصاده اليوم 10 ملايين قتيل، وفقر ومرض وتخلف وديكتاتوربة وفساد وعودة إلى الوراء مئات السنين.
هل هذا السيناريو الإمبريالي بعيد عن واقع بلاد العرب؟ إنّ مسلسل الذبح والقتل والتهجير بدأ في بلادنا تحت شعار سني وشيعي، والضحايا ملايين منذ أن بدأ مع صناعة القاعدة كما اعترفت هيلاري كلينتون، وصناعة داعش كما صرَّح وسلي كلارك. ويبقى السؤال هل سيتوقف سيل دماء السنة والشيعة؟ يبدو أنّه لن يتوقف إذا كنا غارقين في التفكير بغرائز الحيوانات المفترسة كما حصل مع التوتسي والهوتو في راوندا، حيث يتلاعب بنا إعلام فاسد صنع لهذه الغاية، يرضع حليب الإمبريالية ويعمل وفقاً لنظرية فرق تسد بكل طاقاته. يعاونهم بعض من علماء الدين الذين يتاجرون بالدين كي يحققوا مصالحهم الشخصية .
لنعود إلى الأصوات الراشدة من علماء الفريقين .فالأزهر الشريف بكل مكانته العلمية والدينية والتاريخية لا يُكفر الشيعة ويُجيز التعبد بهذا المذهب. أما أهم عالمين في المذهب الشيعي الإمامي، وهما السيد السيستاني والسيد الخامنئي فيصدحان بعدم جواز تكفير السنة بتاتًا.
يجب أن نُدرك أنها لعبة السياسة بامتياز، لعبة المصالح الإمبريالية، فقد تم الانتهاء من تدمير معظم القارة الأفريقية ونهب ثراوتها، والآن الدور علينا نحن وثراوتنا العربية والإسلامية. أما المدارس والمذاهب الإسلامية فكانت أمرا طبيعيا وعيشا مشتركا في كل بلد عربي وإسلامي، وكانت إضافة وليس خصماً أو مرضًا، لأنها أعطت وتعطي المسلم وسعًا في الإسلام بسبب المرونة التي توفرها بتعدد الفتاوى في العبادات والمعاملات. وكان أجدادنا في كل بلد عربي ومسلم يعيشون عيشًا طبيعيًا تلقائياً بين هذه المدارس ولم يكونوا متعايشين.
tahiraallawati@gmail.com