عائشة البلوشيَّة
تزدهر القلوب وتنشرح الصدور قبل الموائد عندما تلوح في اﻵفاق أصوات المآذن وقت غروب الشمس في هذا الشهر، وفرحة الأطفال تسبق فرحة الكبار؛ فيتراكضون زافين خبرَ الأذان ﻷهاليهم المتحلِّقين حول مائدة الإفطار، فتمتد الأيادي إلى طبق الرطب أو السح (التمر)، بحسب الموسم الذي نستضيف هذا الشهر الكريم فيه، ونبدأ فطرنا بهذه الفاكهة المغذية المملوءة بالمعادن المفيدة، مُتلذِّذين بطعمها السكري اللذيذ، حامدين الله على هذه النعمة العظيمة، سائلين المولى دوام النعم.
وبما أنَّ النخلة تنتشر في ربوع السلطنة، خاصة شمالها، فإنَّ العديد منا قد استمتع بمراقبة نمو ثمارها حتى لحظات جذاذها، فعندما يخرج الـ"عوض" (بضم حرف العين)، تبدأ رائحة الـ"كيف" (بكسر حرف الكاف)، بالانتشار في الأجواء معلنة قرب دخول فصل الصيف، ويبدأ البيادير وأصحاب الاموال في البحث عن النبات "حبوب لقاح النخل"، في النخلة الذكر والمعروفة محليا بالفحل، وله أنواع فهناك النوع "الغريف" وهو أفضل الأنواع، وهناك النوع حديث الإنتاج، وهذا لا يأبه به المزارعون لقلة حبوب اللقاح به؛ لذلك تجدنا في طفولتنا نسعد بهذا النوع جدا، حيث سنستمتع لطعم الـ"غيض" الناعم، والغيض كما شرحته في مقال سابق هو النبات الذي يخرج حديثا من جذور النخلة الذكر، فيتم سحبه بقوة (تغييضه) وأكله مباشرة لاحتوائه على الحديد، أما نبات الغريف فيتم استخدامه للحصول على موسم إنتاج غزير.
بعد التنبيت "تُعقد" الشماريخ، وتتشكل الـ"نباه" (بكسر حرف النون، وتشديد الباء)، ويمكن للمزارع معرفة نجاح التنبيت من عدمه بمجرد النظر إلى الشماريخ؛ حيث إنَّ الإكثار من النبات قد يحرق المحصول، وهنا يُقال "شايخ عليهن النبات"، أو يكون التنبيت ضعيفا فيخرج المحصول هزيلا ولا تكتمل مراحل التمر؛ حيث تنقسم النباة إلى ثلاثة أقسام ولا تنضج؛ بعدها تنتقل حياة الثمرة إلى الـ"عنكزيز". وهنا يبدأ شكلها في التكوُّن ليطمئن قلب المزارع بأن محصوله آخذ في النضج بإذن الله، بعدها تبدأ عذوق النخلة في الامتلاء بالـ"خلال" (بفتح حرف الخاء)، ويتم "تحدير" النخلة في هذه المرحلة، والتحدير هو جمع شماريخ العذوق الشعثة، وجعلها تتدلى بجمال، وكأنها حبات من الزمرد الأخضر يعتلي الجذع المرصوص بالكرب، ويتدلى من تحت الزور (السعف)، صورة من جمال بديع لن يفهمها إلا من ترعرع بين النخيل الباسقات، وتحدرت من جبينه حبات العرق وهو يلتقط حبات الخلال المترامية تحت النخلة، بعد أن نفضتها هبات الهواء، لتلتقطها أيدينا وتستقر في الأوعية التي أمرنا أن لا نعود للمنزل قبل ملئها.
تبدأ الثمار في الاستطالة أو الاستدارة بحسب نوع النخلة، ثم تتلوَّن بتدرُّج اللونين الأصفر أو الأحمر، ويبدأ فصل آخر من الجمال الصيفي عندما يصل الثمر لمرحلة الـ"بسر" والمعروف لغة بالبلح، ويبدأ التشوق لتباشير الإنتاج الموسمي، ويبدأ السؤال في قهوة الصباح بين النسوة وفي الأسواق بين الرجال: تبشرتوا؟. وتبدأ أولى تباشير القيظ بالـ"باسوم"، وهو البسر المنقوط من الأعلى بنقطة بنية اللون، وأغلب ظني أنَّ الاسم أُطلق عليها من منطلق ابتسام النخل وثمره وبشائر الموسم برطب جني، وبعدها مباشرة تنتقل الثمرة إلى مرحلة الـ"قيرينة". وهنا يأتي المثل: "قيرينه وشوب تين" ليروي حكاية بداية صيف عُماني أصيل، وبالطبع لا يفوتني المقام ونحن نحمد الله في هذه الأيام المباركة على نعمه أن أذكر أن رطب النغال هو باكورة موسم الرطب، وبعده مباشرة سيأتي نوع لذيذ جدًّا، قليل السكر يعرف لدينا في محافظة الظاهرة بـ"الهريمي أو الملاخي أو الخشكار"، تعدَّدت الاسماء والنوع واحد، ويستمر لمدة أسبوع، وذلك بسبب تأثره بالحرارة الشديدة وسخونة الهواء التي تلامس باستحياء الخمسين سيلزية.
هذه الحرارة اللافحة هي النعمة التي يُرسلها الله لنا لتنضج لنا هذه الثمار الثمينة، فتبدأ بعدها أنواع النخيل الأخرى في إنتاج الثمر، وتعرف محليا بالخرائف، ولا أعتقد أنَّ هناك من لم يسمع بالخلاص أو الخنيزي أو الهلالي أو الجبري...وغيرها من الأنواع المشهورة واللذيذة، أو لم يمر عليه بين الشعر الشهير: "يقولون الخلاص ألذ رطبا.. ولكن قلبي يميل إلى الخنيزي"، ويتم خرف (قطف) الرطب فيؤكل ويوزع للجيران -ويباع لمن أراد التجارة- والاحتفاظ بالـ"سح/التمر" ليقسم إلى نفيعة -يتم إطعامها للماشية- أو تزال من الجيد منه القشرة والنواة "يفسخ" لصنع معجون التمر المعروف بـ"المبلط"، أو يجفف لصنع الـ"عبس"، أو يغسل ويترك تحت أشعة الشمس ليتم كبسه "كنزه" في أوعية خاصة، أو ينتقى الخاص منه لصنع الـ"مقلود"، أو يوضع في خصف خاصة مصنوعة من سعف النخيل وتنضد فوق بعضها في غرفة خاصة ليتم إنتاج الدبس "عسل النخل"، ثم يأتي موسم الـ"جداد"؛ حيث تحصد كل ثمار الخرائف بعد أن تصبح تمرا على عذوقها، ولا يبقى في نهاية الموسم سوى نوع واحد من الرطب وهو الـ"خصاب".
عُقِد مؤتمر الاستثمار في قطاع النخيل و التمور (الواقع و الطموح) في مايو 2016م الماضي، وطرحت الكثير من أوراق العمل المثرية في مجال النخيل ومنتجاتها، وفتحت الآفاق نحو صناعات جديدة لهذا المحصول الذي يمكن أن يشكل عائد اقتصادي مهم؛ فالصناعات تجاوزت الأشكال التقليدية التي تعوَّدنا عليها، إلى صناعة الورق وبدائل المحليات -بضم الميم- الصناعية، فهناك حديث عن مسحوق التمر لمرضى السكري، وشراب التمر وغيرها من الصناعات التي يمكن أن تقوم على التمور التي تزدهر بها أرضنا الطيبة، ولكل مواسم حياة التمرة مر العماني معها بصناعات كثيرة، وأطباق عديدة إما مستقلة أو أساسا او جزءا لبعضها، من الغضة مرورا بالخلالة ووصولا إلى التمرة، وبعيدا عن الجانب الجمالي لوجود النخلة، يكفينا أن الأجداد قديما كانوا يقولون بأن الجوع لن يقترب من بيت في ساحته نخلة مثمرة، وهذا جزء يجب أن نحرص عليه وأن نورثه للأجيال القادمة.
-----------------------------
توقيع:
"أنا لا أضام وفي رحابك عصمة...
أنا لا أخاف وفي حماك أكاني
يا من إذا قلت يا مولاي لباني...
يا واحدا في ملكه ما له ثاني"
للإمام الشافعي-رحمه الله.