"خف علينا يا مُدلَّل"..!

سُلطان الخروصي

حديث الساعة في مجالسنا التربوية يتناول "التخمة" التي فقأت عيني التعليم في البلاد مقابل "الدلال" الذي تقدمه وزارة التربية والتعليم للمعلمين -حسب ما تفضل به سعادة العضو في اللجنة التربوية بمجلس الشورى- ويقال إنَّ الكلمة هي ملكك حتى إذا خرجت أصبحت ملكا للآخرين، وقبل الخوض في حيثيات المقال نطرح جملة من الأسئلة في هذا المجال: هل بالفعل وصل المعلم في عُمان إلى درجة من الشبع والذي جره نحو الدلال؟ وهل شخَّصت اللجنة التربوية بمجلس الشورى سبب إخفاق معاليها في قيادة دفة التعليم -كما وصفها أحد السادة الأعضاء-؟ وهل بالفعل فرغ المعلم للتعليم فقط، وأصبح بذلك كالفيل السمين الذي أفسد المنظومة التعليمية؟ وعلى هامش "دلال" المعلم، هل رفعت عن كاهله مصفوفة الأعمال "الرئيسية" إلى جانب عمله الثانوي (التدريس) وأعني بالرئيسية هنا: المناوبة الخارجية والداخلية، وحصص الاحتياط، والتحضير اليدوي المقيت، وارتفاع نصاب الحصص، وتصميم أدوات التقويم وتصحيحها ومراجعتها، و"فرق التفتيش" في نهاية العام لمحاسبته على قيد الأنملة من أشباه الدرجات التي ربما وهبها للطالب أو انتقصها منه، ناهيك عن الاغتراب لسنوات عجاف من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، والإجازة الإجبارية، وعدم إعطائه حقوقه في الترقيات، وعدم وجود قانون للتعليم يرفع سلمه الوظيفي مع سنوات خبرته أو إنجازاته وغيرها هل بالفعل انتفت كل تلك الآلم وأصبح "معلما مدللا" دون أن نعلم بذلك؟!

إذاً هي كلمة خرجتْ من فيِّ شخص مسؤول يُمثل لجنة ذات صلة مباشرة بالتربية والتعليم وفق قناعة ورؤية واضحة، وإن اعتذر أو برر أن جمهور المعلمين (غير الفاهمين) فسروها بطريقة غير صحيحة فهي تشي بمؤشرات خطيرة جدًّا حول توجه المجلس وربما بعض المؤسسات المتابعة للشأن التربوي بالسلطنة نحو النظرة الدونية له كأضعف حلقة في نزيف التعليم الحالي، إذا نحن أمام مفترق طرق زلق ينتقص من مكانة أحد الأضلع الرئيسية في المنظومة التربوية بكل جرأة وصراحة، وقد لا يختلف اثنان أن وزارة التربية ومنذ تولي معالي الدكتورة هذه التركة الثقيلة -وهي خير خلف لأسوأ سلف- كانت ولا تزال بوادرها نحو إصلاح التعليم قائمة على قدم وساق، وشهادة للتاريخ أنها عملت على تجويد التعليم وسعت إلى رفع سقف ضبط الجودة في كل زواياه؛ باعتباره أحد المكونات الرئيسية في منظومة بناء دولة المؤسسات العصرية؛ إذ هو سر نجاح فلندا، والفلبين، واليابان، وكوريا الجنوبية واللاتي أصبحن شموسا بازغة في رابعة المجد والمدنية؛ فالمعادلة بسيطة جدا تقوم على تجويد التعليم من خلال استثمار المعلم والذي هو بمثابة "المِصل" الناجع للتخلص من فيروس الغيبوبة والفوضى الاجتماعية، والركود الاقتصادي، والتصحر الثقافي، إلى الصحوة والنظام البشري السوي، والانتعاش في اقتصاد المعرفة، وغزارة الإنتاج العلمي وجودة العمل الحكومي أو الخاص، فانتبهت كثيرا من دول العالم لهذا المكون الرئيس في "مملكة" التعليم من خلال حشرِهِ في زاوية مفعمة بالرضا الوظيفي، والاستقرار النفسي، والأمان الاجتماعي؛ والذي بدوره انعكس في جوده أدائه، وابتكاره لطرق تدريسية حديثة، وتوظيفه للتكنولوجيا بمختلف صنوف المعرفة التي يقدمها لأبناء الأمة، بعيدا عن التحسف، والتحسر، وعدم الرضا، واللامبالاة، والرهبة من المجتمع، والشعور بالنقص، والاستصغار.

وعودة إلى "دلال" المعلم الذي شخَّصه سعادة عضو اللجنة التربوية وكان حديثه عن طول الإجازات التي ينعم بها المعلم، وبمعادلة بسيطة جدا فإن عدد الأيام التي ذكرها لم يفصل فيها بأنها شملت 98 يوما يمثلن إجازة آخر الأسبوع -الجمعة، والسبت- فهل سعادته وبقية الأعضاء وجميع موظفي الجهاز الحكومي بالدولة يمارسون عملهم الوظيفي في هذين اليومين؟ وحول نعته بفشل السياسات التعليمية التي تنتهجها معالي الدكتورة مع إخوتها وأخواتها من الهيئات التدريسية والإدارية والإشرافية، هل بنى هذا الحكم على معايير وأسس علمية حقيقية تقارن بين "أمس التعليم" والواقع الذي نعيشه الآن بكل مفاصل العملية التعليمية؟ نحن نعلم أن التعليم في عُمان يشكل أحد المشاريع الإستراتيجية التي ترفد الدولة في سبيل تطويره وتجديده وتجويده أمولا طائلة كان آخرها حسب بيان وزارة المالية للعام 2016م بمقدار 2.5 مليار ريال عماني، بينما بلغت في العام المنصرم 2015م مقدار 3 مليارات ريال عماني، وقد سعت مؤسسات التعليم قدر استطاعتها نحو تنمية الحس المعرفي والمهاري للكوادر التدريسية والإدارية بما يخدم الحقل التربوي؛ والأهم من ذلك هو قدرتها إلى حد كبير -وبتعاون مع المثقفين ومؤسسات الإعلام المختلفة- نحو تحسين صورة المعلم وإرجاع هيبته التي استصغرت بين غمضة عين وانتباهتها؛ بسبب متغيرات تسارعت وتيرتها على الساحة العمانية والعربية، ويبدو أن سعي مديريات التربية والتعليم بمختلف المحافظات بدا جليا في سبيل بناء جسر حقيقي بين المعلم والمجتمع بعدما اتسعت الفجوة إثر اعتصامات المعلمين المطالبة بالإصلاح التعليمي والتربوي وما شاب الأمر من الصيد في الماء العكر لدى المراهقين الذين لا يستحلون لهذا البد وأهله الخير، بل يبغون الفساد والسوء والبوار، لتخرج لنا بعض الأبواق ومن تحت قبة من كنا نرقب فيه الصوت الرخيم للمطالبة بالإصلاح التربوي، فيصف كل تلك الجهود والعطاءات والتضحيات بأنها لا ترقى إلا لنعتهم بــ"المدللين"!

كم هُو جميل أن يمهد للمعلم جسر مرصع بعبق التقدير والاحترام بل والتبذير في إكرامه حق الإكرام! وكم هو جميل أن يكون المعلم على ضفاف المراتب الرفيعة حين توضع الخطط والإستراتيجيات الوطنية بما يخدم الأمة ونقول لمؤسسات المجتمع المدني "هل من مزيد"!، فمن الحق أن ينزه المعلم عن المتاجرة به في إخفاقات الآخرين ويكون حجر النرد الأساس في بناء منظومة المناهج الدراسية لما يملكه من رصيدٍ علميٍ وعمليٍ متراكم طوال سنوات العطاء المجهدة ليس الاعتماد على "بعض" أصحاب الشهادات الكرتونية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ينبغي أن تستمر مسامع المسؤولين بالتربية والتعليم إلى ما يقوله المعلم من إصلاح تعليمي وتربوي؛ فنحن بحاجة إلى أن نرتقي بهؤلاء الكوكبة من المجتمع إلى المثالية الحقيقية بعيدا عن اللجان والاجتماعات الفضفاضة التي للأسف في غالبها لا تخرج إلا بتوصيات تكليفية إضافية على المعلم، نحن بحاجة إلى أن تستمر منظومة الإصلاح التعليمي التي قطعت شوطا كبيرا حتى الآن، بحاجة إلى أن نقول "كاد المعلم أن يكون رسولا!" لا أن يُتنابز به في المجتمع... "خف علينا المدلل".

دمتم بحب و"دلال"...!

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك