دلالات افتتاح المحكمة العليا

علي المطاعني

حَمَل تكليف حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة بافتتاح المحكمة العليا، الكثيرَ من الدلالات الكبيرة والعميقة، التي تصبُّ باتجاه ترسيخ استقلالية القضاء، وإبراز مكانته العليا في الدولة التي تتخذ من سيادة القانون منهجا لا تحيد عنه، كما عكست القيمة الحضارية لهذا المنجز المساعي المبذولة لإقامة دولة المؤسسات التي تترسَّخ أركانها عاما بعد عام بفضل الرعاية السامية لقائد البلاد المفدى -أعزَّه الله- حيث تشكل المحكمة العليا تتمة لمؤسسات الدولة، التي تبسط سلطاتها بقوة القانون والعدل؛ من خلال فصل واضح بين سلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، تعمل جميعها وفق منظومة تُسهم في الارتقاء بالعمل المؤسسي في البلاد، وتؤدي دورها بكفاءة عالية وفق اختصاصاتها وآليات عملها، في استقلالية تامة لا تؤثر على التعاضد والتناغم فيما بينها، وهي رؤية سامية اتخذتها السلطنة في تطوير جميع مؤسساتها.

ومن هذا المنطلق، فقد جَاء تكليف سماحة المفتى العام للسلطنة برعاية افتتاح المحكمة العليا، كرسالة أراد جلالته إيصالها للقاصي والداني، بأن السلطنة تعمل في إطار قانوني يخضع للنظام الأساسي للدولة الذي نص في مادته الـ60 على أنَّ السلطة القضائية مستقـلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون، وهو ما يفسر عدم تكليف مسؤول حكومي تنفيذي بهذه المهمة الجلل، فإبعاد السلطة التنفيذية عن المشهد يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه لا وصاية على القضاء؛ كونه سلطة مستقلة بذاتها، تقوم بدورها كباقي السلطات التنفيذية‏ والتشريعية؛ فالمغزى من رعاية المفتي لافتتاح أعلى صرح للسلطة القضائية، له أهمية كبيرة في تجسيد الاستقلالية التامة للقضاء وعدم تداخل السلطات في الدولة.

وجاء اختيار سماحة الشيخ الخليلي وهو من له حق الإشراف على الشؤون الدينية في البلاد؛ تأكيدا على ما تمثله الشريعة من أساس للتشريع وفق ما ذكر النظام الأساسي في مادته الثانية؛ فالقضاء كسلطة من سلطات الدولة يعمل على إقامة العدل بين الناس والإنصاف بين المتقاضين، يجب أن يتخذ الشريعة الإسلامية مصدرًا لأحكامه، وأن تكون القوانين التي يحكم بها بين الناس مُتوافقة معها، ولعلَّ تأكيد الشيخ أحمد الخليلي في كلمته على تعزيز العدل في الحكم بين المتخاصمين والحث على الإنصاف جاء في السياق نفسه ليؤكد الغاية والهدف، ويشدِّد على الحرص السامي الدائم على سيادة القانون الذي يرى المواطنين سواسية لا يفرق بينهم غير حكم القانون المستلهم من الشريعة السمحة بنوده.

وبعيدا عن الدلالات، فقد توج افتتاح صرح المحكمة العليا بهيبتها الكبيرة صروح القضاء في السلطنة وأبرز ما وصل إليه من مستوى راقٍ بفضل العناية السامية طوال سنوات النهضة المباركة؛ فهذا الصرح الكبير يؤكد على أن التدرج الذي شهده القضاء العماني على كافة مستوياته كان يستند إلى مرتكزات تراعي المرحلية في خطواتها.

كما أنَّ افتتاح المحكمة العليا يأتي في إطار استكمال منظومة المنشآت القضائية في السلطنة كأحد المحاور التي حظيت بالاهتمام الكبير من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله- بهدف توفير البيئة الملائمة للعمل القضائي في السلطنة وتهيئة كل المرافق والخدمات التي يحتاجها العاملون في القضاء بما يُسهم في عدالة ناجزة تبسط الحقوق بين الناس.

فقد سَبضق هذا الصرح الكبير توفير مجمعات المحاكم في محافظات السلطنة؛ حيث كانت أولوية تم استكمال معظمها على اختلاف درجاتها ومستوياتها القضائية وفق منظومة العمل التي يحتاجها السلك القضائي في البلاد بشكل يُسهم في تدرج العمل في القضاء بدرجاته المعروفة، ولقد جاءت مجمعات المحاكم في المحافظات بهيبتها لتمثل ما يمثله القضاء من أهمية في هياكل الدولة والمكانة التي يحظى بها بين مؤسساتها.

... إنَّ الرعاية السامية للقضاء، شكَّلتْ جزءا مهمًّا في مراحل بناء الدولة؛ حيث حرص جلالته على تولي رئاسة المجلس الأعلى للقضاء؛ مما عكس الاهتمام السامي، ورعايته له من كافة الجوانب التشريعية والإدارية والمالية والبنى الأساسية، وفي هذا قال جلالته في خطابه السامي بمناسبة العيد الوطني السابع والعشرين: "لقد نصَّ النظام الأساسي للدولة على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، وتنفيذا لذلك فإنه وإن كان النظام القانوني قد شهد تطورا كبيرا خلال الحقبة الماضية، مواكبة لعملية التنمية الشاملة، ومساندة لها، إلا أننا نؤكد على اهتمامنا باستكمال ما تبقى من العناصر في هذا المجال خلال الفترة المقبلة، وعلى الخصوص فيما يتعلق بتنظيم القضاء على أسس حديثة، من حيث المحاكم واختصاصاتها، ودرجاتها، والإجراءات القانونية الواجب اتباعها، والتي تكفل حق الدولة في صيانة الأمن والاستقرار، وتضمن في الوقت ذاته الحقوق العامة للأفراد والجماعات مستمدين العون والقوة من العلي القدير، الذي أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن البغي والعدوان". وقد وعد جلالته فأوفى.

إنَّ المكانة التي وصل إليها القضاء العماني قد تخطت الحدود وأصبح محل إشادة إقليمية ودولية؛ حيث أعلن معهد فريزر الكندي عن وضع القضاء العماني في مرتبة رفيعة في التصنيف العالمي الذي يجريه بالتعاون مع مؤسسة البحوث الدولية مسجلا المرتبة الأولى عربيا؛ حيث حقق مؤشره نسبة 8.7 درجة من عشر درجات على مستوى العالم ليضع القضاء العماني بين أفضل الأنظمة القضائية المشهود لها بالاستقلالية والكفاءة على مستوى العالم، وهو ما يُثبت أن الاهتمام بالقضاء من كافة الجوانب سينعكس على سمعته محليا ودوليا، وسيمكنه من أن يقوم بدوره برضا شعبي كامل.

وبالطبع، سيظل القضاء وفق سُنن الحياة بحاجة إلى تطوير دائم ليواكب مكتسبات العصر ووفق تطور المجتمع ومتقتضيات الوضع، وستظل التطلعات كبيرة في هذه المؤسسة في المستقبل.

فالدلالات من افتتاح سماحة الشيخ أحمد الخليلي للمحكمة العليا كثيرة ومراميها تعزز هيبة القضاء واستقلاليته وتعظّم هيبته بين مؤسسات الدولة؛ مما يسمو به شموخا فوق شموخ، ليكون حصنا منيعا للأمن والاستقرار في البلاد وداعما للحق والعدل في المجتمع وملاذا للضعفاء.

تعليق عبر الفيس بوك