الببغائيَّة وغياهب الفكر الغربي

سمير الهنائي

يُعانِي الكثيرُ من الأخوة الاستناريين العرب اليوم من الببغائية المتحمسة للتنوير المستمدة من الفكر الغربي.. فهم شغوفون للأمام بحماس ببغائي دون أن تساورهم الشكوك حول أي مشروع معرفي غربي؛ فمن الضروي جدًّا أن نتوقف ولو قليلا أمام النواة الحقيقية في الفكر الغربي محاولة لتوضيح الرؤى للأجيال وتنوير الشباب من هذه الشعارات البراقة والتعمق للجذور الأساسية في هذا الفكر، وما هو موقفنا من هذه التيارات التي باتت تؤرق حياة الشباب العربي من أعلاه إلى أقصاه، فإذا ما قارنا مبادئ الحرية التي تكون لديهم صالحة هنا وغير صالحة هناك، والحقوق المدنية والديمقراطية والحرية الاقتصادية، نجدها مختلفة جدًّا في الكثير من تلك المبادئ والشعارات التي يتغنون بها، فما نراه شيئا وما نعرفه شيئا آخر، وهذا ما يفسره لنا الواقع على كل حال في السلوك الغربي واظطهاده للإنسان الضعيف ومحاولة التحكم فيه بشكل كامل والقضاء عليه كليا.

يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري في إحدى محاضراته الفلسفية في مفهوم "الحداثة" إنَّ العرب نقلوا أفكارًا من الغرب، ولكنهم لم ينقلوا فكرًا أو العمق، بل اكتفوا بالشوائب فقط؛ لذلك عندما نقلوا تلك الأفكار نقلوها بمثالية دقيقة وعالية يُحسدون عليها مما جعلهم في بوتقة الجمود، دون أن يكون لهم أي نقد لتلك الأفكار وتقبلوها كما هي.

نَرَى الأخوة الاستناريين العرب يندفعون بقوة لمحاولة فرض تلك الأفكار وإدخالها إلى مجتمعاتهم من مبدأ التجديد وتحديث الأمة للتقدم واللحاق بركب الحضارة الغربية حسب وصفهم، إلا أنهم مع الأسف تجاهلوا ما هو أعمق من ذلك وهو الوصول إلى الحقيقة الجذرية لتلك الأفكار، فهم رأوا أفكارًا ولكنهم لم يروا فكرًا، إنَّ المصطلحات المستخدمة في الواقع العربي -ومن بينها: "العلمانية"، والتي عُرفت على أنها فصل الدين عن الدولة، والتي نشأت عند منتصف القرن التاسع عشر عندما كانت الدولة كيانا صغيرا، ولا يتحكم في الحياة الخاصة آنذاك- إلا أنَّه بعد ذلك تطوَّرت وانحرفت عن ما كانت ستمضي فيه، وهنا يرى الدكتور المسيري "أنَّ العلمانية فصلت حياة الإنسان عن جميع القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية؛ ليتحوَّل العالم إلى مادة استعمالية يوظفها القوي، وهذا ما نشهده وتفسره لنا اتجاهات الغرب وأمريكا وسلوكها المعاصر بداية من تاريخ العلمانية كالتشكيل الاستعماري وإبادتها للملايين واستنفاذ الموارد الطبيعية في الشرق. فتحويل الإنسان لمادة هو بحد ذاته محاولة لفصل الإنسان عن الميتافيزيقا وعن مرجعيته في الكون، وأن الأبقى هو الأقوى، وهذا ما عبَّر عنه فكر "نيتشه وسبينوزا...وغيرهما" ممن كان لهم الأثر الأكبر في الفكر العلماني المظلم، والعلمانية التي أعتبرها المشرع الأول لبداية التشكيل الاستعماري صدَّرت إلينا الجرائم ومشكلات اجتماعية عدة للشرق تاريخًا وحاضرًا، وهذا ما يشهده الواقع الآن. وبات من الضروي جدًّا أن ننير الطريق أمام الأجيال القادمة والحاضرة، وأن ندرك تماما أننا نعاني من مُصطلحات عديدة تحاول أن تدحر الإنسان عن أصله بكل قيمه الإنسانية والأخلاقية والدينية. ولابد أن يكون لدينا نقد فلسفي متعمِّق في استقراء وتمحيص الفكر الغربي المظلم، وأن يجتهد ذو الشأن لإنارة الطريق لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه في عالمنا الإسلامي العربي شبه المتفكك والمتصدع ثقافيا.

تعليق عبر الفيس بوك