محترمون لا تنالهم شبهات!

رحاب أبو هوشر

إن لم يكن المرء من "المحترمين" في المجتمع، سيصبح في متناول الشبهة الأخلاقية، والتي لا تستند إلا للتصنيفات الطبقية في المجتمع، فأصحاب المناصب ورجال المال، الأثرياء أو من يتمتعون بمظهر الثراء، بعيدون عن الشبهة مقارنة بأبناء الطبقة الوسطى، والبؤساء من المسحوقين لا بد أن يكونوا مشبوهين مقارنة بموظفين محترمين. شخص يرتدي ثياباً أنيقة تشي بثمنها الباهظ، ستضعه هيئته المترفة في مرتبة "المحترمين"، ولن تحوم حوله شبهات محتملة، يتعرض لها عديدون حوله، ممن سيكونون مشبوهين بالضرورة، وأول عوامل الاشتباه بهم وأكثرها بديهية مظهرهم العادي أو الرث، وأنهم يملكون ثمن تلك الملابس الأنيقة، لكي ترفع من "قدرهم" الاجتماعي ومحدداته الأخلاقية، ولينتقلوا بالتالي من دائرة المشبوهين إلى دائرة الشرفاء المحترمين. وموضع الشبهة وإمكانية الاشتباه، عادة ما يكون تجاه انتهاك القانون، وارتكاب الجنايات والجرائم، وتجاوز العرف وقواعد الثقافة الاجتماعية، وغير ذلك من شروط متفق عليها ضمنيا وتضامنيا، في الفرز بين المشبوه والمنزه عن الشبهات.

الشبهة تحددها معايير ثقافية شكلانية، غير معنية بصفات الشخص الإنسانية، أو طبيعة الفعل المشبوه ذاته، بقدر ما ترتبط بالصور النمطية التي يرسمها ويحددها نظام المجتمع، عبر سلطته وأدواتها، وفقا لمعطيات تركيبته الثقافية والطبقية، وأهدافها وغاياتها أيضا.

وفق النظام السائد، الأناقة تعني الثراء، قد يكون ذلك الأنيق رجل أعمال أو تاجرا كبيرا، والثراء لا بد أن يعني الاكتفاء والعفة، والترفع والأناقة في السلوك والأخلاق، وهذا يجعل من إمكانية الاشتباه بلصوصية ذلك الشخص، إذا ما وقعت جريمة سرقة مثلاً في نطاقه، مسألة في غاية الاستهجان والرفض، وستدور الشبهات بشكل تلقائي، تجاه أفقر الموجودين وأكثرهم بؤسًا في مظهره، أي أضعف الحلقات في مجتمع طبقي، وأسهلها نهشاً ومهاجمة وازدراء. الثقافة الاجتماعية تشجع على استبعاد مفاهيم العدالة، وخلق تصنيفات للناس بين مشبوهين وفوق الشبهات، فابن المعلم ذكي ومهذب وإيجابي، وإن كان غبيًا وكسولاً وعدوانيًا مشاغبًا، هذا امتياز يضعه فوق الشبهات ومن ثم فوق القانون والعقاب، أما ابنة مدير الشركة، ولأنّها ابنته فقط، فيمكنها اتّهام أي موظف بأية تهمة، للتخلص منه أو معاقبته، حتى وإن كانت هي المصدر الحقيقي للمشاكل والهدر المالي، ولا عمل لها إلا كونها ابنة المدير. مجتمع يكذب ويُدمن الكذب، كلما تحدث عن العدالة والمساواة بين جميع فئاته، ويتواطأ الجميع على كذب معروف ومطلوب في آن معًا.

يخلق النظام آليات حفظه واستمرارية سلطته من داخله، ويحارب بشراسة كل محاولة لنزع مخالبه وإضعافه، رغم ما تحمله التجربة البشرية والمجتمعية من معانٍ منافية، فقد قيل قديمًا: "حاميها حراميها" وهو مثل شعبي بالغ الذكاء، إذ يدلل على فهم اجتماعي لطغيان السلطة وفسادها وإفسادها للخاضعين لها، لكنه فهم عاجز عن ترجمة ذاته، برفض التنميطات الاجتماعية، وإعادة صياغة مفاهيمه ومعاييره الاجتماعية لتصبح أكثر إنسانية وعدالة. المثل يدرك احتماء الحرامي بسلطته كحامٍ، واستغلاله لها، وبموقعه الذي يحصنه من إمكانية الاشتباه به، ولكنه لا يحصنه أخلاقيا، كما أنه لا يعيد إنتاجها لتتواءم مع موقع الحامي، أما السبب المباشر والأكثر صراحة لضعف أثره وعجزه، أن من صاغوه وتداولوه كانوا أولئك الضعفاء، من هم خارج منظومة قوى السلطة. هم الواقعون دائمًا في مصيدة الشبهات، ومن يدفعون الأثمان عن جناة حقيقيين يظلون أبدًا خارجها.

وما أكثر "الحماة الحرامية"، الذين يجهدون ويجتهدون ليظلوا نظيفين من الشبهات، بينما يقع في فخها ضحاياهم من الضعفاء، لينالوا العقاب مرتين، مرة عقاباً على ضعفهم، ومرة أخرى عقابًا على جرائم لم يرتكبوها.

ما يمارسه رجال أعمال "الدين والدعوة" لا يخرج عن تلك الفكرة، يتلفحون تماماً بالدين، ويتقنون أدواته ومظهره، هو كل بضاعتهم على أي حال، ويتلاعبون به وفق مصالحهم، فيصبحون هم الدين نفسه. طبقة دينية أسست سلطة نافذة باسم الدين، لن تسمح لأيّ منتقد أو ناقد بزعزعتها وتفتيتها، فذلك يعني زوال أثرها على البسطاء، وزوال الأموال والنفوذ والنعم. ستبقى طبقة رجال الدين فوق الشبهات، مهما قيل عن فساد بعض رجالها وكذبهم، وممارستهم الاحتيال خلف النصوص الدينية، بل وبتجاوزها أيضًا، وسيأتي ردها سريعا، هجوما جاهزا بالتكفير وتشويه الآخر وإثارة أبشع الشبهات حوله، للقضاء عليه.

أما قصص خيارات الأنظمة السياسية أحيانًا، في صراعها لحفظ سلطتها، بالتضحية ببعض صغارها، أكباش فداء تُذبح أمام الناس، ذرا للرماد في عيونهم، ولامتصاص غضبهم، بعد أن تفوح روائح الجريمة والفساد من رؤوسها، أو تصفية بعض الرؤوس وتغييبها، إذا أصبح وجودها يشكل خطرًا على سلامة وضع النظام، فقد أصبحت "أفلاما" قديمة مكرورة، وتجري في مختلف بلدان العالم، وإن كانت أكثر تركزا وفجاجة ودموية لدى الدكتاتوريات، حيث مفهوم السلطة ومصالحها، وطبيعة تحالفاتها واحدة، فمن يرتكب الجريمة والمخالفات، هم الصغار دائمًا، الأقل "قدرًا" في المجتمع.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة