زينب الغريبية
اقترب يا حمار أتيت للحديث معك، سئمت ما يدور حولي من أحاديث، فما عاد الناس يلهجون إلا بالخوف من وضع الحياة الآتية خوفا من هبوط مستوى الحياة، أو تأزمها، وأشياء أخرى كثيرة..
- هل أنت مثلنا يا حمار؟
- بل أنت لم تعيشي كما عشت أنا. لم تري عصرين يحمل كل منهما نظام حياة آخر، لتعلمي معنى السّآمة.
- أخبرني يا صاحب فإنّي أتوق لخبر الزمان.
- قدمت للحياة فأرى أهلي وأبناء جلدتي في عمل دؤوب، كانوا هم محرك الحياة بأسلوبها البسيط، سيستغرب منّي الجميع إن كنت أرى زمن العمل والتعب هو الزمن الجميل، وأني مستاء من زمن الدعة، حيث أجد طعامي إلى جانبي دون أدنى جهد أقوم به في المقابل. ولكنني لا أجد المتعة في ذلك.
أتعلمين حين كان الناس بلا سيارة ولا وسائل اتصال التي سهلت الاتصال والمسافات إلا أنّ الحال ليس كما المفروض أن يكون عليه، كان الناس يتكبدون تعبا أكبر في سبيل الوصال، وكانوا يفعلون. كان الناس يسمرون سويا، ويأكلون سويا، لم يكن الواحد ليستأذن لزيارة صديقه أو قريبه أو جاره، بل يطرق الباب ويدخل ليلقى ما تهيأ من ضيافة على الرحب والسعة.
لم نرَ السيارات الفارهة ولا الطرق المعبدة ولا الإشارات المرورية واللوائح الإرشادية، ولم يكن هناك (الرادارات) التي تصيد من يتعدّى حدود السرعة. ومع ذلك كنا نلتزم بسرعتنا ونسلك طريقنا الصحيح دون لوائح، نأخذ وقتا طويلا حتى نصل لكننا تعودنا على ذلك، لم نكن نسأم من طول المسافة، ولا من حرارة الشمس، ولا نخاف من نفاد الوقود، فلدينا ما يكفينا من مؤونة تناسب الجميع. ترافقنا الطبيعة: الشمس ونسيم البر وحيوانات الصباح نهارا، وفي الليل يسامرنا ضوء القمر أو إنارات النجوم وحيوانات البر الليلة.
- لماذا كل هذه الحنين إلى الماضي طالما أن احتياجات الحياة أصبحت أفضل، وتعيشون في حرية بلا حدود؟!
- هل تتوقعين مني مثلا أن أشاركك هذا الشعور؟ ونحن في الماضي كنا الوسيلة المفضلة للنقل والحمل كنا نحمل أثقالا ونمضي في طرق لا يمكن أن تسير فيها سيارتكم المعاصرة، أما اليوم فنحن نعيش في حرية لا يكدرها إلا أننا لم يعد لنا نفس القيمة التي كنا نتمتع بها من قبل.
- عن أي حرية تتكلم؟ وهل أتعبنا إلا هذه الحرية التي يمجدها الكثيرون؟
- الحرية تمنح ما لا يمكن أن يمنحه إلا جبار. أو ربما أنتم لا تعرفون حدود الحرية، ولا تعرفون كيف تستمتعون بها.
- أنت محق حريتنا بدون حدود، لكنها حرية بدون مسؤولية، نحن نبحث عن المسؤولية في كل ما يجري، وأحيانا ننكرها في جانب، ونتغاضى عنها في جوانب أخرى رغم أن تبعاتها لا تتساوى في الجانبين، فهذا سوق يمارس حرية لا أحد ينكرها يرفع أسعارا، يغش في سلع، ويقدم خدمات بها استغلال، وهذا مقاول يمارس حرية في الخروج عن المواصفات المطلوبة للبناء، ولا يوقف حريته استشاري أو ممثل جهة رسمية، وهؤلاء عمّال يمارسون حرية في التنقل والعمل بدون ضوابط في كل مكان وفي مؤسسات رسمية؛ لا أحد يقيد حريتهم رغم تبعاتها وآثارها الخطيرة.. لكن المشكلة لا تكمن هنا.
- هههههه، إن لم تكن هذه المشكلة؟ فأين هي إذن؟!! هل رأيت يوما حماراً يسمم حماراً، هل رأيت يوما حمارا يخطف العشبة التي يأكل منها الحمار الآخر، هل رأيت يوما حمارا يتوانى عن القيام بما يطلبه صاحبه منه، نحن معشر متسامح، مخلص، أمين.
- ها أنت إذن تعرف ما هي مشكلتنا، وهي كيف نقبل بعضنا ونكون أكثرا تسامحا، لأننا لن نكون أقوياء إذا أضعفنا بعضنا بعضا، ولن ننجز شيئا إن أعقنا من ينجز منا، أنت تعرف الإشكالية لكن لا تعرف عمقها.
- هل هي أعمق مما أعرف، بدأت أشعر بالقلق منكم، ماذا تصنعون بأنفسكم، والله أمدكم بكل هذا الرخاء الذي لن نحصل عليه نحن يوما.
- نحن نعرف ما نصنع ولكننا لا ندرك ما نصنعه بأنفسنا، نصادر الأشياء الجميلة التي نمتلكها، ونزيد المساحات التي تفصلنا، ولا نمد أيدينا لبعضا وكأننا خلقنا غرباء، وكأننا من فصائل مختلفة مثلكم، وأنتم لا تكترثون لتعدد فصائلكم، ولكننا نكترث لذلك، ونبغض الإنجاز والإخلاص، ونحب النفاق والاستغلال، ولا نعرف أن نقدر جميلاً، ولا أن نحترم تواضعاً، لا نزكي أحدا من بيننا، لأنّ كلا منّا يشعر أنّ إنجاز الآخر يعني فشلنا، بدلاً من أن نعتبره مصدر فخر لنا، وأصحبت قيمة الشيء في نظرنا مادية.
- حمدا لله أننا لا نعرف إلا الأثقال التي نحملها، والشعير الذي نأكله، أخشى لو عرفنا قيمة الأشياء مثلكم، لن نرضى إلا لنكون في مزارع الأثرياء، ولن نحمل إلا أثقالهم.
- أصبحت قيمتنا فيما نملك، لا فيما نؤمن به أو ننجزه أو في الموهبة التي نتمتع بها، كم دخلك؟ وأين سافرت؟ ومن أين تشتري ملابسك؟ وما المطاعم التي ترتادها؟ هذه هي الأسئلة التي تشغلنا ولا شيء غيرها، لكن لا أحد يسأل عن كم كتاب قرأت؟ وكم إنجازا فكريا حققت؟ وكم عدد الكتب في مكتبتك؟ لا شيء له سلطة في مجتمعنا أكثر من سلطة المادة، ومن أجل التنافس في ذلك يسيء الناس لبعضهم البعض، وينتهجون أساليب لمضاعفة ثرواتهم لا يهم إن كانت غير أخلاقية أو قانونية، ولذا لا أحد يشعر أنّ التعلم يمثل له سعادة أو يحقق له أحلامًا، الكل يبحث عن أيسر الطرق للثراء، لم نعد نستمتع بشيء. لكننا نتباهى أنّ الآخرين يستمتعون به، ويتقدّمون به، ونوصي أنفسنا باستمرار أنّ الدنيا ليست أكبر همنا، وفي سبيل الآخرة علينا أن نتعقل لكن الكلمات كبيرة وعميقة لا أحد يفهم معاناها.
- كل هذه المدارس ولا تفهمون أنّ الدنيا ليست إلا دار بناء، هل أنشأتموها لتنهق فيها أمثالنا من الحمير أم من أجل إعادة بناء ما تعتقدون أنّه نقاط ضعف لديكم؟!
- من السهل أن تقود "الحمار" إلى النهر لكنك لا تستطيع أن تقنعه أن يشرب خاصة إن كان لا يشعر بلذة الماء، كان الجميع سابقًا يفرح كثيرًا بالمدرسة، وينتظر انقضاء اليوم من أجل العودة إليها مرة أخرى، وكان كل شيء في ندرته ذا قيمة. كان هناك حرمان كبير من وسائل المعرفة ومصادرها، لذا لم يكن أحد يرضى أن يغيب عن المدرسة، أمّا اليوم ولأنّ الندرة أصبحت وفرة لم يعد التعليم مصدر خلاص، ووسيلة تحرر، ولذا لا تستغرب اليوم أن ينتشر المتعلمون ويقل الوعي، وتضعف الأخلاق، ولا أعرف ما الذي يمكن أن نفعله؟ هل نترك أنفسنا للمجهول؟ أما نعيد التفكير؟ ما رأيك ؟
- أنتم لا تقبلون النصائح، تعتقدون أنكم تعرفون كل شيء، وألا أحد مثلكم، كل شيء تدركون أبعاده، وكل صغيرة وكبيرة تحسبون حسابها. ومع ذلك لم تدرك أغلبيتكم الفرق بين طعم لحم الحمير واللحوم الأخرى حين قدمتها له المطاعم كل هذه السنين، فبماذا يمكن أن أنصح من أكل من لحمي ولم يعرفه طعمه.
- أنت قاس أيّها الحمار، لم نأكل لحمك إلا لأننا كنا مغفلين.
- وهل تعتقدون أنّكم اليوم أصبحتم أكثر ذكاء؟ مساكين أنتم، ستظلون في عالم لا تفقهون فيه شيئا.
- هذه شماتة لم أتوقعها منك أيّها الحمار؟ لم أعرف أنكم تشمتون.
- يا زينب، أنتم معلمونا، قد كنا لا نعرف شيئا لكنّكم أفسدتم فطرتنا.. سامحكم الله.