علي بن سالم كفيتان
لا شكَّ أنَّ مُحمَّد لا يزال في طَوْر اكتشافه لمحيطه يقول في يوم من الأيام "جرَّتني الصدفة لأعلم أنَّ لي أخا من أمي (سهيل)، لقد طلع إلينا قادمًا من المدينة لزيارة أمي، وعندما قدم الركب في المساء رحَّبتْ أمي بابنها، كان يرتدي ملابسَ نظيفة، وله شعر كث، أعتقد حسب ما أسعفتني به ذاكرتي أنه لا يتعدَّى الخامسة عشرة من العمر، سلَّم عليَّ، وأخرج لي من جيبه هدية عبارة عن حُصان من العاج، وبه مزمار، فكلما ضغطت على الحصان أصدر صوتًا يُشبه صهيل الخيل، وكانت هذه هي أول لعبة أحصل عليها في حياتي".
سهيل هذا مدمن لأكل السكر، وفي تلك الفترة السكر غالٍ، وفي كثير من الأحيان معدوم، ما زلت أذكر مغامراته للحصول على السكر؛ ومنها أنه إن لم يجد في بيتنا فإنَّ بيت الجيران سيكون مستهدفًا بلا شك وأنا كنت الشاهد الوحيد على عمليات السطو السكري هذه، وسكوتي لم يكن بدون مقابل؛ فكانت لي حصة طيبة مقابل حراسة الأخ سهيل أثناء تلك المغامرات، عندما علم أهل القرية بوجود تناقص في كميات السكر لديهم شكوى بأنَّ هناك حيوانًا بريًّا يقوم بذلك عليه كانوا يعلقونه في السقف؛ بحيث يصعب الوصول إليه، وهنا تورط أخونا؛ فهو قصير القامة مثلي، وأذكر أنَّه استخدمني كسلم للوصول لمخزون أمي ذات يوم، ولكن كشفتنا وكانت هذه هي آخر مغامراتنا السكرية.
بعد فترة، غادرنا سهيل إلى المدينة؛ فهو مُلتحق بالمدرسة، لقد بكت أمي كثيرا لفراقه، فسألت أمي: "أين يقيم سهيل؟"، فقالت: عند عمه في المدينة. في هذا العام، ذهب جدي لأمي لأداء فريضة الحج، وذهب خالي الوحيد للبحث عن كسب الرزق في المدينة، وقبل ذهاب جدي للحج أودع أبقاره عندنا حتى يعود. كانت تلك سنة جدب، ومعظم المواشي نفقتْ من الجوع، وحتى الناس كانت أجسادهم نحيلة ووجوههم شاحبة، وما زلت أذكر أننا في مورد الماء الرئيسي عندما تحلب شاه يوضع في الحليب كمية مماثلة من الماء لكي يحصل الجميع على حصة، أذكر أنَّ أمي اجتمعتْ مع أبي بحضور جدتي -رحمها الله- وقالت سأنزل بما تبقى من أبقار، والدي الذي عند أخي يحافظ على ما تبقى، وكذلك ربما نجد طعاما أفضل للأولاد، فوافق أبي على مضض، والكارثة كانت "سلمي"، فقد رفضت رحيلنا، وبكت. وفي اليوم التالي رافقتنا مع دموعها المنهمرة حتى نصف الطريق، فحضنتني، وقالت لي: "لا تنساني"، فقلت لها: "سأعود يوما، وسأحضر لكي ثوبًا أخضر من المدينة، فرجعتْ وهي تبكي ومعها أبي".
هذه الرحلة ذكَّرتني اليوم بمشاهد المجاعات في القرن الإفريقي؛ حيث كنا مجموعة من النساء والأطفال مع قطيع من الأبقار الهزيلة، أمي لم تنزل المدينة من قبل، وعند كوت الحراسة في طرف المدينة الغربي توزَّع الناس، وكل واحد يذهب لمعارفه، كانت أمي تتقدَّم وهي حامل في أشهرها الأخيرة، وخلفها أنا، وتسير على إثرنا بضع بقرات لا تتعدَّى أصابع كف اليد الواحدة، وفي هذه الأثناء قابلتنا سيدة فاضلة اسمها "خير بنت سعيد"، فرحَّبتْ بأمي، وقالت: "أدخلي أبقاركم في هذا الدهليز، وتفضلي معنا". رفضت أمي، وقالت: "بل سأسير إلى عمي". أعطتنا ماءً، وأذكر أنها سقت المواشي المنهكة، إنها قلبٌ رحيم يصعب وصفه في ذلك الوقت المرير (العمة خير رحمها الله).
وصلنا لبيت العم، وكان صف من الدهاليز، فخرجتْ الجدة ورحَّبت، فقالت: "أمي، تفضلي"، فردت أمي: "نريد مكانًا لإيواء الأبقار"، فرد صوت مجلجل من داخل الدار بأننا لا نؤوي أبقارًا.......... هنا انكسر وجه أمي، ورجعت على أثرها للخارج، وركضت خلفنا الجدة، ولكنَّ أمي رفضت المكوثَ في هذه الدار، وقالت: سأبحث عن عمي (محاد)، لقد أخطأت المكان. وعند وصولنا للباب، خرج لنا رجل قصير القامة، فجلس على الأرض، وسأل مستنكرا هذي (ونادى أمي باسمها)، فقالت: "نعم"، فبكى وأخذ أمي في حضنه، وقال لها: "وصلتي يا بنتي، مرحبا بكم". وأدخلنا للدار، وأمر أحد الرجال للعناية بالأبقار، وهنا همست أمي في أذني، وقالت: "هذا هو جدك الذي نبحث عنه......".
في مساء يوم وصولنا، أحضر لنا جدي محاد خيمة جميلة، ونصبوها لنا في فناء الدار، وحضر أخي سهيل وخالي -رحمه الله- وناما عندنا، كم كنتُ سعيدا بهذه اللمة، ومع ذلك لم أنسى روح الملاك الطاهر، إنَّها أختي التي ما زالت في الريف، فعندما كنتُ أحلق في النجوم مُستلقيا على ظهري رئتيها، تحدثني من السماء وبجوارها جدتي وأبي، وفجأة بكيت، وهنا صاحتْ أمي: "ما بك؟" قلت: "تذكرت سلمى"، كان جدي محاد -رحمه الله- رجلًا يحب مُمازحة الأطفال ولديه أكياس من الحلويات اللذيذة، فكان من يصدقه يحظى بالجائزة، ومن ضمن طلباته أن يتم تقبيله، وهنا زعل خالي -رحمه الله- وناداني بعيدا، وقال: "لا تسلم على هذا العجوز الخرف". وأحضر لنا في المساء كمية كبيرة من الحلويات (الشاكليت)، وقال لأمي هذه لمحمد ولا تتركيه يسلم على هذا الشايب في فمه المليء بالتومباك (رحم الله خالي كم كان رحيما معي).
في المدينة، تعلَّمتُ الكثيرَ من المهارات، وسمعت الراديو لأول مرة، وشاهدت الطائرة في السماء، كما تعرفت على الحقول والمزارع الممتدة على الساحل؛ حيث كُنَّا نمضي الوقت بين السباحة في الجابية (بركة) وبين تسلق أشجار النارجيل والاستمتاع بطعم مائها ولحائها اللذيذين، إنَّها حياة جديدة وأناس آخرون، كما شاهدت السيارة وركبتها، وعرفت عملية إيقاد النار على الشولة كما يسمونها الحضر، وعرفت قيمة النقود، وذهبت للدكان، ورافقت أخي سهيل للمدرسة رغم أنه لا يحب ذلك، فأنا كنت مشاكسا جدا.
ومن ضمن مغامراتي مع أخي سهيل، في يوم من الأيام أحضر كتبه الدراسية، وكان هناك كتاب ممزق من الطرف، فقال لأمي خيطيه، وذهب ومعه الشباب من نفس سنه، فلحقت بهم، ولكنه نهرني، وقال "أنت صغير، عد إلى أمي"، فرجعت مكسورَ الخاطر، وهنا سألتني أمي: "من أين أخيط هذا الكتاب؟". وهنا جاءت فرصة الانتقام من الأخ سهيل، فقلت لها خيطيه من جميع الجهات، وفعلت بحيث يستحيل فتح الكتاب، ووضعته في الشنطة، وفي الصباح ذهب للمدرسة، ولما طُلب منه فتح الكتاب على صفحة الدرس، قال الأخ سهيل للأستاذ: الكتاب ما انفتح، وهنا حضر المعلم وأخذ أخي حصته من الضرب المبرح، وبعدها صرنا أصدقاء؛ حيث كان يُهادنني لضمان عدم حدوث كوارث جديدة (حفظك الله أبو فيصل).
وبعد مضي عدة أشهر، لم أعُد أحتمل المكوث في المدينة من شدة الشوق لسلمى وأبي وجدتي، فكنت أهرب في اتجاه الريف، وأقول للناس أريد أن أطلع الجبل عند أبي، وعند شجرتي (جحشيش) وهي شجرة تين عملاقة في قريتنا الريفية. وبعد عدة محاولات، استجابتْ أمي وطلعنا الجبل وكان الوقت بعد الخريف، وكم كنت سعيدا بالعودة لأحضان الريف الطاهر وكنف أبي وأختي وجدتي رحمها الله. علَّمتني الحياة أنَّ المتعة لا تكون بتوفير المأكل والمشرب والملبس فقط، بل بالروح الجميلة لمن كانوا حولك في أحلك الظروف.
استودعتكم الله، موعدنا يتجدَّد معكم بإذن الله.. حفظ الله عُمان وحفظ جلالة السلطان.