عبد الله علي العليان
عاشت أمتنا منذ عقود، وما تزال في صراع مع فكر التطرف والتكفير والغلو، بمؤثراته وتأثراته الخطيرة، لعل أهمها التفجيرات الانتحارية، وتفجير الطائرات والمطارات، وأماكن العبادة وغيرها من الأفعال والمُمارسات، وأغلب هذه الأفعال والممارسات تصيب الأبرياء، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ـ مع المسلم أكثر المستهدفين من المتطرفين والتكفيريين! ـ والشيء الغريب واللافت أنّ هذه الأعمال المشينة، تتحدث باسم الدين وباسم الجهاد ومرضاة الله، مع أنّ كل النصوص القطعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، وأقوال المدارس الفقهية الإسلامية، تُحّرم قتل الأبرياء، وترفض قتل غير المسلم غير المحارب، والمحارب أيضاً له تشريعات لا تُجيز قتله إلا ببينات وقرائن، إلا حالة الدفاع عن النَّفس، كما أنّ غير المُسلم الذي يدخل البلاد العربية، يُعد في رعاية هذه الدول وحمايتها، لأنّه دخل بجواز وإقامة وليس محارباً، هذه كلها تدحض ما تفعله هذه الجماعات، والحقيقة أنّ انتشار التطرف بشكل لافت، مدعاة للنظر والمراجعة، لماذا ينتشر هذا الفكر مع هزائمه وتراجعاته العسكرية منذ عقدين أو يزيد؟ والحقيقة أنّ الرؤية ضبابية في أسباب الانتشار الكبير لفكر التكفير والتطرف في عصرنا الراهن، بل إنّ بعضاً من هؤلاء من عاش في الغرب، من العرب والمُسلمين، وبعضهم من الأوروبيين أنفسهم، فإنّ الأمر يزيدك في الحيرة والاستغراب من شباب كل دراسته كانت وفق المناهج الغربية، وهذا يدحض المقولة التي رددها بعض الغربيين في بحوث ودراسات عديدة، وقال بها بعض العرب والمسلمين أيضاً، بأن بعض النصوص الدينية في مناهجنا هي السبب في هذا التطرُّف والتكفير والغلو، ولابد من تغيير هذه النصوص، حتى يتم سحب هذه الأفكار التي تشجع على التطرف والتكفير، وما حصل من تفجيرات وأعمال انتحارية في الغرب، وخاصة في فرنسا وبلجيكا في الأشهر الماضية، ثبت أنّ من قاموا بهذه الأفعال شباب تربوا وعاشوا في الغرب، ودراستهم كانت غربية تمامًا! ومن هذا المنطلق فإنّه من المهم البحث عن أسباب ومسببات هذا التطرف الذي امتد إلى شباب ثقافتهم غربية، وبعضهم كان في سلوكه كما عرف عنه بعد البحث والاستقصاء، من رواد المراقص، وعاش حياته بعيداً عن التدين، الذي يقال إنه السبب في هذه الأفعال المُتطرفة والإرهابية.
والحقيقة أنّ الإرهاب والتطرف الذي يعتبر الآن قضية القضايا ومحط أنظار العالم واهتمامه وتوجسه وهواجسه، له من الأسباب الكثيرة ما يجعل حصره في مسألة أو قضية واحدة فكرة هلامية وتبسيطية غير صحيحة، فالإرهاب والتطرف يتمايز في منطلقاته، وهذا التمايز يجعل هذه الظاهرة ـ الإرهاب والتطرف ـ تختلف من بلد لآخر تبعاً لأسباب وعوامل عديدة ومتداخلة في نفس الوقت. منها العامل السياسي ـ وهو الأكثر بروزًا ـ إلى جانب العامل الاجتماعي والديني والاقتصادي والثقافي والفكري وهكذا. فظاهرة التكفير والتطرف والغلو، ظاهرة مُركبة ومعقدة ومن الإنصاف أن تكون النظرة إليها شاملة ومتوازنة ولا تقف عند عامل واحد فقط ونغض الطرف عن الأسباب الأخرى التي ربما تكون هي العامل الحاسم في هذه المشكلة أو الظاهرة التي تجتاح العالم كله وليس عالمنا العربي والإسلامي فقط . فالبعض يرجع قضية الإرهاب والتطرف إلى الجهل وقلة العلم والفهم بأمور الدين والدنيا، والبعض الآخر أيضاً يراها نتيجة من نتائج الفقر والبطالة في العديد من المجتمعات العربية، والبعض الآخر يراها نتيجة من نتائج القمع السياسي والاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية ويراها البعض الآخر مشكلة نفسية واجتماعية وأسرية..إلخ وهذا التحليل أخذ جانباً من الجوانب، دون النظر إلى جوانب أخرى، ولذلك فإنّ من المهم والأدق، البحث عن الأسباب، في كل حالة من الحالات، ذلك أنّ دخول الكثير من الغربيين مع داعش كمقاتلين في العامين الماضيين، يُبرز أنّ الأمر يحتاج إلى استقصاء أوسع وأكبر، حتى يتم البحث في جذور هذا الفكر وأسبابه، دون أن يضع كل الممارسات الإرهابية في سلة واحدة، ويرى الكاتب حسن أبو هنيّة المُتخصص في هذه الجماعات"أن صعود هذا التنظيم، محلياً وإقليمياً، ليس طارئاً وهزيمته تتجاوز الجانب العسكري والأمني، إلى مواجهة الشروط الموضوعية السياسية التي تقف وراءه ووراء التنظيمات والنماذج الشبيهة. ولذلك لابد من المواجهة الفكرية أيضًا، لأنّ هذه التنظيمات تتغذى على مستنقعات التوترات والإحباطات والإقصاء في الكثير من المناطق الملتهبة، وهذا ما استفادت منه بعض هذه الجماعات للأسف، وجذبت إليها بعض هؤلاء المُغرر بهم، ولذلك من المهم أن تتزامن المواجهة الفكرية مع المواجهة العسكرية، لتقليص ما تستفيد منه الجماعات التكفيرية والمتطرفة". كما أن البعض يرى أن ظهور داعش والمجموعات المتطرفة معها فجأة، وبقدرات وإمكانيات كبيرة، يجعل الكثيرين يشككون في فرضية، أن مساحات وقدرات وإمكانيات، وضعت داعش، لتتمكن من فرض نفسها على الواقع الميداني والعسكري في سوريا والعراق، حتى يتم التمهيد لخطوات أخرى لترتيب المنطقة على أسس تراها بعض الدول أنّها أكثر حماية واستقرارا للمنطقة. والبعض الآخر يرى أن ظهور التطرف والتكفير، في دول بعينها، كسوريا والعراق، يبرز أن القمع والاستبداد، هما أحد الأسباب الأساسية لظهور التطرف والغلو، وأن هؤلاء ضحايا للظلم والاستبداد في هذه الدول، وإلا لماذا يظهر هذا الفكر المغالي في دول بعينها، دون غيرها من الدول!!، ويلقى قبولاً كبيرًا من الكثير من السكان، فالأسباب داخلية بحتة، كما أنّ هذا الفكر، ليس نبتة جديدة تبرز مع داعش والنصرة، فهو موجود عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن نتذكر، جماعة التكفير والهجرة التي قتلت الشيخ الذهبي وزير الأوقاف المصري في 1977، وهذه الأفكار التكفيرية، التي تحملها التكفير والهجرة، لا تختلف كثيراً عن فكر داعش وجماعات التطرف والغلو الأخرى، وإذا كان ثمة اختلاف بين تلك الجماعات، فهي اختلافات هامشية وليست جوهرية، ولذلك فإنّ هذا الفكر يحتاج إلى مواجهة فكرية أيضاً، ربما تكون أقوى من الجانب العسكري، الجانب العسكري لا يكفي وحده للقضاء على الفكر المتطرف، فطالما أنّ الأفكار تستنسخ، فإنها ربما تعود بوجه آخر وبمُسميات أخرى.. فكيف تتحقق المواجهة الفكرية؟ وللحديث بقية.