ناصر الكندي
تُمثل حالة "روبنسون كروزو" -شخصية الرواية الشهيرة لدانييل ديفو- ذلك الواقع الذي يفلت منا كلما اقتربنا منه، مثله مثل المرآة المصغرة التي تجعل الأشياء أصغر، فروبنسون كروزو تُرك في تلك الجزيرة المهجورة وعاش أكثر من عشرين عاما يعيد اكتشاف نفسه والوجود في عالم مازال الواقع فيه شبه مجهول، وكانت الأحداث تمضي بدهشة من المستقبل المغري بالأمل، والنفس تخاطب الحياة أكثر مما تحاور ذاتها عن عبث الوجود.
وكذلك هي الحال عند "روبرت ستيفنسون" في روايته جزيرة الكنز؛ فالعالم الذي يعيش فيه الروائي مملوء بالغرائبية والمغامرات والدهشة، تجذبك أحداثها منذ الوهلة الأولى من ذلك النزل المنعزل عند البحر وظهور تلك الشخصية المجهولة صاحب تلك الأنشودة الشهيرة: "خمسة عشر رجلا ماتوا من أجل صندوق". وتتوالى الأحداث من ميناء بريستول إلى عالم المجهول الجميل في السفينة والمؤامرات السوداء التي تحاك ضده وصولا إلى الجزيرة وسحرها الصاخب! لتستمر مرآة الواقع في التصغير أمام الانسان ويزداد المعنى غنى وعظمة.
ولكن، لنتخيَّل أنَّ الواقع يتحول فجأة إلى مرآة مُكبَّرة؛ حيث يتوغل فينا الواقع بدلا من أن نتوغل فيه مثل تلك الأزمنة البعيدة، هل ستبقى الدهشة حاضرة؟ فمنذ منتصف القرن التاسع عشر ظهر الواقع بحلّة جديدة جعل الإنسان محور الرؤية بدلا من الوجود، وكان العلم مسرعا لهذا التكبير السريع للواقع، فالأنا والذات تحولت إلى لاوعي سحيق، والذرة التي كانت الفلسفة تعتمد عليها في فكرة الجوهر انقسمت بعد أن كانت لاتقبل القسمة، والسببية المرتبطة بمكان وزمان ثابيتن صارت نسبية!! والقاتل أصبح مذنبا وبريئا في نفس الوقت مثلما هو الحال في رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، والوفاء الزوجي أصبح عالة ولاإنساني كما هي الحال في رواية "مدام بوفاري" لفلوبير و"آنا كارنينا" لتولستوي، والذات أصبحت نرجسية في التحليل النفسي، والإنسان غدا جزءا من طبقة اجتماعية في علم الاجتماع، والعقل انتهى إلى العبث عند نيتشه!
أمام هذه المرآة المكبرة لا يكون الواقع سوى شيء زائد على الحاجة، فالإنسان المُدرك له يتحول إلى لا-منتمٍ على حدِّ تعبير كولن ولسون، وعلى ذلك يتجاوز الإنسان الواقع إلى ما فوق الواقع كما هي الحال في السوريالية، فالمكوِّن الرئيسي لفكر الإنسان هو أحلامه وخيالاته وليس عقله، وتصبح الانطباعات التي تظهر للوعي مباشرة هي الحقيقة، بل قد يكون كل شيء عبثا وبلا معنى لأن كل شيء تم تفسيره بمجهر العلم.
وليست السياسة بمنأى عن هذه البرمجة الخطيرة للواقع، فكما أن للعلم قوانينه فللإنسان أيضا قوانينه، والتاريخ له سلّم يرتقيه نحو التقدم والارتقاء في سابقة لم تكن موجودة في الماضي، فالمستقبل كان في الماضي حلما مؤجلا من الأمل يحكمه القدر المجهول، أما وأن الواقع صار ملكا للإنسان فإن القدر أيضا أصبح في قبضة هذا الكائن اللحوح، وبسبب ذلك ظهرت التيارات التقدمية والاشتراكية مبشرة بسعادة الإنسان آخذة دور الأنبياء، وتسابق الجميع لتحقيق المثل التي تنتمي سابقا إلى عالم السماء، وبدأ عصر الجماهير الذي يصنع التاريخ بدلا من الأنبياء والملوك والفلاسفة. وبقدر ما كان الحلم في قبضة الواقع تلاشى الحلم أيضا إلى مملكة النسيان، فبسبب المستقبل تم إبادة ملايين البشر في الحربين العالميتين، وانتشرت أجهزة المراقبة والاستخبارات محققة تنبؤات عالية المستوى في معرفة ماضي الإنسان ومستقبله وحتى أحلامه، بل إنَّ الكرة الارضية يمكن أن تصبح رمادا بمشيئة حفنة من البشر المتحكمين بالأسلحة النووية، والحرب الباردة كانت أكبر تجسيد في إظهار القوة في تحديد مصير العالم بأكمله! أو كما يقول البريطاني تورنج مخترع الحاسوب في فيلم "لعبة المحاكاة" بأنه هو القدير بعد فك شفرة انيجما الألمانية إبان الحرب العالمية الثانية.
ما هو الحل في ظل هذا الواقع؟ سؤال ربما حاول العديد من الكبار أن يجيبوا عنه من خلال أطروحاتهم؛ فالايطالي ألبرتو مورافيا في روايته "الاحتقار" يكشف عن رغبته في تأويل الأشياء تأويلا غرائبيا كما هي الحال في الأوديسة دون الاستعانة بالتحليل النفسي الذي يجعل كل شيء باردا، كما أن الفلسفة نفسها دعت إلى تدمير الذات التي تحتكر الحقيقة وتوسع من التأويل، وتحولت السياسة إلى نبذ الأيديولوجيا مفسحة المجال إلى جميع الثقافات أن تتجول بأمن في أروقة العقول والدولة، ولكن حتى هذه العلمنة المنفتحة أدت لبعث الأساطير وجعلها حقائق، محققة نوعا ما النبوءة المنسوبة إلى الروائي الفرنسي "أندريه مالرو" بتسمية القرن الجديد بقرن الديانات.