المخرج سالم بهوان يوفق في اختيار مسندم مسرحا لأحداث "قصة مهرة"

قراءة

مسقط - سعيد البداعي

تناول فيلم "قصة مهرة" عدة محاور تجلت فيها معانٍ كثيرة منها المثير والغريب نوعا ما، استطاع فيها المخرج أن يوفق بين الثقافة والسياحة في بيئة جديدة تتنوع فيها تضاريسها ولغاتها ولهجاتها ومصادرها.

ومن وحي مسندم الذي اختار المؤلف -بمشاركة المخرج سالم بهوان- أن تكون مسرحا لـ"قصة مهرة"، اعتقد جازما أن ما أخرجه إلينا في هذه القصة ما هو سوى دراسة عميقة في النسيج المجتمعي المعاش في محافظة مسندم وتحديدا ولاية خصب. لا أعلم الزمن الذي استغرقه في تكوين الحبكة واستقصاء الأحداث ورسمها على الواقع وتوزيع الأدوار بين فئات المجتمع المحلي بطريقة تدرك تماما أنَّ الجهد المبذول لم يكن بالهين والبحث بين ثنايا وزوايا وأزقة الحارات سواء في كمزار وخصب تمكن من أن يقدم الكثير باختصار وكأنه يواكب تقنيات العصر الحديث الذي يمكن للمرء من استنباط واستنتاج الكلمة أو المشهد بتفاصيل مختزلة.

وبالتأكيد؛ فإنَّ للجهات الحكومية والخاصة والأفراد في المحافظة دورا كبيرا في

إظهار هذا العمل بحلة يرتضونها قبل أن ترضي الآخرين.

مسندم التي لم يقصدها المخرجون والإعلاميون إلا في تقارير أو أفلام وثائقية معدودة فيما أنها تختزن الكثير في كل شبر فيها، بينما "قصة مهرة" هو حكاية جسدت واقعَ الحياة المعاش والخاصية البيئية والاجتماعية واللغوية وحتى الحداثة والعمران التي تنوَّعت مشاهدها وصورها بين حين وآخر أظهرت عددًا من المواهب الشابة الواعدة التي لم تنل نصيبها في المشاركة الدرامية رغم تمكنها ونضجها الواضح.

لن أتعمَّق في المحاور والسيناريو للقصة وما دار فيها من أحداث، ولكنَّ تركيزي حول ما قدمته القصة والرؤية الإخراجية والذكاء الذي استغله المخرج في إحداث نقله نوعية في الخاصية المكانية والشخوص باختصار. وكل لقطة تشدني وتأخذني إلى ذاكرة الزمن من مكان إلى مكان لتدور في ذهني أكثر من حكاية وحكاية.

نقلت القصة المشاهد من تضاريس رؤوس الجبال الشاهقة التي شقها طريق النهضة ليربط أواصر المجتمع بين الصخور الصماء مجابها حدة الارتفاعات في قمم الجبال وشدة المنحدرات في بطون الأودية، وتارة أخرى معلقا بين زرقة مياه البحر المتهادية وتقاسيم أصناف الأحجار الجبلية القاسية المرصوصة بقدرة ربانية عجيبة، المياه العميقة بزوارقها المتنوعة الأحجام والاستخدام تمخر عباب البحر بين جزر وشواطئ القرى المترامية في خلجان وأخوار مسندم من خور شم وخور نجد وخور الحبلين والعديد من الأخوار.

وركز المخرج في القصة على الرموز الهامة في ولاية خصب وكمزار وولاية بخا وجزء من ولاية دبا الجميلة. وبدأ من حصن خصب وحصن الكمازرة، ولي في حصن خصب أكثر من قصة ولكن أجملها هي استقبال مولانا جلالة السلطان المعظم في بداية السبعينيات عندما أم الجميع الحصن وأنا اركض مزاحما أقداما جلها عارية غير منتعلة وما زلت لم أكمل السادسة من عمري عندما تعثرت بـ"القوف"، فسقطت وسرعان ما وقفت وواصلت الركض، (القوف اسم محلي يطلق على الصخور التي تغمرها مياه مد البحر ويعريها الجزر) لتبرز بين حبات الرمال السوداء الداكنة التي تكسي الأرض المنحسر عنها الماء والمقابلة للحصن والتي طُمرت واختفت بفعل الطريق المرصوف والمنطقة التجارية القائمة حاليا والتي بني عليها أسواق اللولو هايبر ماركت. وهذه المنطقة تحديدا كنت مع رفاقي نغوص لصيد (القبقوب) أو سرطان البحر ذو اللون الأخضر الكبير الحجم، وفي حالة الجزر تقام عليه المباريات في كرة القدم بين الشباب والصغار من مناطق خصب غربي وشرقي والحالة والحاجر وغيرها.

ووثق المخرج والكتاب التراث والثقافة في مسندم، حيث أوضح تفاصيل العرس في محافظة مسندم وطريقة أعداد العريس من قص جزء من الشعر وتسبيحه في بئر معروف ولكل منطقة بار يستحم به العريس في ليلة الزفاف، ثم التحول إلى البحر الذي لابد للعريس أن يكسر البيض برجله اليمنى ولا يزال هذا النهج المتعارف عليه ساريا حتى الآن. وقد عرج المخرج إلى القبائل المعروفة في ولاية خصب والقرى التابعة لها من الشحوح والضهوريين والكمازرة.

نسيج تجلت صورته في اللنش الذي جمع الأصدقاء في مشروع نجح فيه أبناء خصب في تسخير الخبرات البحرية المتراكمة إلى مصدر رزق آخر وبصورة حديثة يدر بالخير الكثير مع إضافة اللمسة العصرية على جماليات المركب والخدمات المقدمة الإضافية.

ومشهد آخر يعد سمة المجتمع العماني في التعاضد والتعاون من اجل تحقيق طموح شخص ما أو تذليل صعاب بأسلوب هادئ من خلال زواج عبدالله. وربط السيناريو والمخرج دور البطولة لقبطان العبارة التي هي الأخرى من المشاريع الحكومية الرائدة في ربط الجزء بالكل، وليؤكد بعمق ارتباط أبناء المحافظة بالبحر ليعيدنا سالم بهوان إلى ذاكرة الماضي البعيد عندما كان نواخذة صور يستعينون بنواخذة مسندم بالمشاركة في الرحلات التجارية البحرية القديمة بين بلدان أفريقيا وشبه الجزيرة الهندية مرورا بدول الخليج. وتنوع الملابس وخاصة العمامة التي تدل على انتماء صاحبها، وكما أن (الجرز) له مكانة خاصة بين أبناء محافظة مسندم لم يكد يفارق المشاهد في الحوارات الرجالية. والأغاني والأهازيج الشعبية فولكلور حافظ عليه الأبناء من الآباء في المحافظة حيث طغت الندبة على الموسيقى الخلفية للقصة وهو تنويع وتغذية غير مباشرة في حفظ التراث ونشره والتعريف به بالإضافة إلى بعض الأغاني التراثية المعروفة.

أما عن الجغرافيا التي تحدها الجبال من اتجاهاتها الثلاثة حيث يمتد البحر أمامها بعتمته وعمقه، فهي هندسة ربانية متماثلة في معظم مناطق المحافظة، يتفرد سكانها ومن يحملون اسمها من قبيلة الكمازرة بلغة خاصة استطاع المخرج توظيفها بشكل جيد وأتاح للمجتمع العماني والعالمي التعرف على مكنونات المجتمعات المتعددة في السلطنة.

وأعتقد أن جغرافية المحافظة أعطت انعكاسات على الحياة العامة في المجتمع المحلي من الجلادة والصبر وقوة التحمل والحميّة العالية بالإضافة إلى قوة الروابط والتماسك الكبير بين فئات المجتمع كتماسك سلاسل الجبال الممتدة من جبال الحجر الغربي والتي تنتهي على ضفاف محافظة مسندم من جهة الشمال.

والكمزراية لغة مزيج من 48 لغة مجتمعة في لغة واحدة هكذا عرفت عنها، حاولت تعلمها أتقنت القليل من مفرداتها لصعوبتها وهي من اللغات المنطوقة غير المكتوبة. استطاع المخرج وقدرات الممثلين من تقديمها بشكل رائع وجميل وفي مختلف المواضع في التحاور في حالات الغضب والاستعجال وغيرها وهي بحد ذاتها ثقافة شعب تحتاج إلى تفسير وبحث.

واللهجات الشحية التي هي بالأصل لغة عربية فصحى لا يدركها إلا المتمعن فيها والتي تحتاج إلى بحث ودراسة من الأكاديميين اللغويين، تختلف مخارجها بين سكان المحافظة من سكان الساحل عن الجبل وعن سكان القرى المطلة على البحر داخل الخلجان، ويفند الشخص المتحدث بوضوح من أي أطياف المحافظة من خلال كلامه.

صور عدة أبرزتها القصة في الحداثة من شوارع وعمران، والسهولة التي تمكّن الزائر من الحصول على مختلف الخدمات كالفنادق الجميلة المطلة على البحر واستئجار المركبات والقوارب، والحصون التاريخية في استعراض جميل وحي داخلي وخارجي. والجماليات المتنوعة في البيئة البحرية من جزيرة التلغراف والدلافين وصيد السمك وتحرك القوارب وتنوع السياح على السفن السياحية. والمشهد الذي شدني واعتقد أن الكثير مثلي في الحوار اللفظي والغير لفظي الذي دار في المستشفى بين يوسف وزوجته حول إصابة ابنهما. وبالرغم من الحوار القصير والمشهد الوحيد الذي ظهرت به الفنانة خنساء الكمزارية والتي بحسب وجهة نظري المتواضعة انه من المشاهد الرائعة القوية وتقمص الدور بدقة وجسارة أمام الكاميرا من قوة الحوار ممزوجة بحدة الملامح. فان كانت هذه تجربتها الأولى فبالتأكيد ينتظرها مستقبل واعد.

مسندم هذه المحافظة البعيدة القريبة الممحونة بحب أهلها وكل من زارها كوالدي رحمه الله عندما وطئها لم يبرحها. قدم فيها سالم بهوان المنتقي لأعماله الفريدة الجميلة وكل الممثلين والفنيين والعاملين قصة جميلة وبروح محلية رائعة ومن روائعها: المشاهد الجميلة للمحافظة ومكنوناتها السياحية والتراث والثقافة الخاصة بالمحافظة. والتراث الغنائي الفولكلوري واللغة الكمزارية واللهجات المحلية وإبراز قدرات الشباب المحليين الفنية وإشراكهم مع قامات إعلامية. وتعرف المجتمع المحلي على الجهود المبذولة في إنتاج الأفلام. ويجب التوصية والاستفادة من قدرات الشباب الفنية وتوظيفها في أعمال مماثلة بإشراكهم في الإعمال الدرامية المختلفة. ووضع قصة مهرة محل تحليل فنية معمقة للخروج بالدروس المستفادة. واستقطاب المنتجين والفنانين وشركات الإنتاج لإبراز مكنونات المحافظة. وتكوين شركة إنتاج فنية محلية لإنتاج الأعمال المحلية ولرفد ومساعدة كل من يرغب في إنتاج عمل فني بالمحافظة. وكلمة شكر وتقدير للأخ والأستاذ الفنان سالم بهوان على هذا العمل الرائع ولجميع من دعم وساند وقدم لهذا الإنتاج الفريد، وفقكم الله لمزيد من الأعمال والجهد لتحقيق المزيد من النجاحات والتميز.

تعليق عبر الفيس بوك