"يا أمَّة ضحكت من جهلها الأمم"..!

عبيدلي العبيدلي

بين الحين والآخر، وبسبب وغير سبب، يقرأ أحد منا على أصحابه، أو يسرده سردا على نفسه، الشطر الثاني من إحدى قصائد أبو الطيب المتنبي التي هجا فيها كافور الإخشيدي وقال فيها: "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم".

الكثير منا يجهلون باقي أبيات القصيدة، ولا يعرفون المناسبة التي قيلت فيها. إن قصتها في غاية البساطة، فقد عرف عن المتنبي تقلبه في موقفه من ذلك "الكافور"، بين مديح جزيل وقدح غير محدود.

يقول المتنبي في تلك القصيدة التي يأتي في مطلعها البيت:

من أية الطرق يأتي نحوك الكرم...

أين المحاجم يا كافور والجلم

حتى يقول:

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم...

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

وقد عاب المتنبي حينها على المصريين، في الشطر الأول من ذلك البيت، حصر تمسكهم بالدين في "حلق الشوارب"، في حين قبلوا بشخص مثل كافور أن يحكمهم، ومن ثم فلا يتحمل جريمة تنصيب كافور الاخشيدي ملكا على مصر أحد آخر غير المصريين أنفسهم، من وجهة نظر المتنبي.

وشاطر أبو العلاء المعري، المتنبي فيما ذهب إليه، حبن خاطب أهل مصر قائلا: "اقتصرتم من الدين على ذلك، وعطلتم سائر أحكامه! ورضيتم بولاية كافور عليكم مع خسته، حتى ضحكت الأمم منكم واستهزأوا بكم وبقلة عقلكم".

ليس المقصود هنا النيل من كرامة مصر أو شعبها العظيم، بقدر ما ترد على بال من يتابع المشهد السياسي العربي الحالي، ذلك الشطر من قصيدة المتنبي، لكن المقصود هنا ليس شعب مصر، ولا كافور، وإنما البلاد العربية برمتها، والشعوب العربية قبل حكامها في مقدمتها.

فاليوم.. لم يفقد العرب صُلب علاقاتهم بقيمهم الدينية وجوهرها، إسلامية تلك القيم أم مسيحية، أم أي دين آخر، ولم يتوقف الأمر عند قبولهم بحاكم غير عادل وخنوعهم له، ومداهنتهم لآخر غير كفء، وريائهم له، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، على المستويين الديني والسياسي.

فعلى مستوى التمسك بالدين، بتنا لا نرى أي مظهر من مظاهر من يدعون تشبثهم بالدين الإسلامي الحنيف، سوى مجازر ترتكب بحق الأبرياء، من مواطنين عزل من السلاح، وسبي واغتصاب لفتيات قصر لم يرتكبوا ذنبا سوى أن ظروفهم أوقعتهم أسرى في أيد "كائنات" أبعد ما تكون عن الإنسان والإنسانية، دع عنك الأديان، وفي طليعتها الإسلام.

ثم بتنا نشاهد عبر شاشات التلفاز، بشكل متكرر ممجوج، هدمهم لآثار تعكس تطور المجتمع الإنساني، وتبرز إنجازاته التي حققها في مرحلة تسبق الدعوة الإسلامية.

وتكبر المصيبة عندما يرتكب كل ذلك تحت شعارات إسلامية جوفاء يسوق لها أناس هم أبعد ما يكونون عن الدين الإسلامي.

وتتعاظم سلبيات ذلك، حين ننتقل إلى المستوى السياسي؛ حيث تدس أجهزة المخابرات الغربية أنوفها النتنة، وأصابعها القذرة، كي تروج لهذه السلوكيات، فتبرر ما تقوم به من تدخل في الشؤون العربية الداخلية، وتنجح في تأليب العربي على أخيه العربي، فتشق الصفوف، ويصفو لها الجو كي تستفرد بكل طرف عربي على حدة، بعد أن تسلخه من جسده العربي.

هكذا لم يعد الأمر واقفا عند مستوى القبول بحاكم غير كفء، ومزاولة الشعائر الدينية على نحو خاطئ، بل تجاوز الأمر حدود أعراف العلاقات السياسية والدبلوماسية، فوجدنا أنفسنا نستعين بأجنبي غير كفء كي ينصرنا على أخ عربي كفء. ولم تعد أمور الأمة في أيدي حكامها، بل ولا حتى من نصَّبوا أنفسهم بديلا لأولئك الحكام.

تطوَّرتْ مكونات المشهد السياسي العربي، من حكام، ومعارضات، وقيادات مجتمع مدني، في اتجاه سلبي، وهوت بكل قوتها نحو قاع مظلم سحيق يحول دون رؤية مستقبل الأمة واتجاه حركتها.

ولم يعد من حق الأمم الأخرى أن "تضحك من جهلنا" فحسب، بل بات في وسعها أن تقهقه وبصوت عال مستفز من سذاجتنا عندما يتعلق الأمر بالأوضاع الاقتصادية التي دمرها -بدلا من أن يصلحها كما هو منطقي- اكتشاف النفط وبكميات غزيرة وافرة في المنطقة العربية.

فلم يعد في وسعنا تحديد كميات النفط المستخرج، وشحناته المصدرة للخارج، وأسعار بيعه، بما يتفق ومصالحنا الوطنية او القومية، ولا ما يلبي احتياجات ما نزعم أنها "خططنا التنموية"؛ فجميعها باتت مرهونة عند ذاك الأجنبي الذي يتحكم فيها: كميات، وتصديرا وسعرا، بما يتوافق وخططه هو وبرامجه الوطنية.

ودخلنا الأسواق العالمية من جاداتها الاستهلاكية؛ فتحولنا إلى أسرى لرواد تلك الأسواق وتجارها، وأقمنا أنظمة الدفاع عن الوطن العسكرية، على ما تقذف به مصانع تلك القوى الأجنبية، لكن بعد أن تتجاوز تاريخ صلاحية تشغيلها. محصلة كل ذلك أننا سمحنا لأنفسنا ان نضحك نحن عليها، بعد أن أجزنا للأجنبي أن يهزأ منا، بفضل تلك السلوكيات التي قزمت قاماتنا.

بقيت معلومة تستحق ذكرها في هذا المقام، وهو أن هناك من يتحدث عن شاعر آخر استخدم الشطر ذاته، عاش في الفترة بين 1850-1897م، هو حسن حسني الطويراني، حيث نجده يقول، كما تنقل عنه بعض المصادر:

إني أقول وحق ما أقول لهم...

لكنهم جهلوا تحقيق ما فهموا

مني سماعا عباد الله واعتبروا...

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

سواء قرض هذا النصف المتنبي، أو قاله الطويراني، يبقى السؤال متى ستوقف أمة العرب الآخرين عن الضحك عليها، كي تخرج نفسها من هذا الوضع السيئ التي أوصلت نفسها إليه؟

رُبما يكون الأمر غير سهل، ويبدو في غاية الصعوبة، وهو أمر متوقع، لكنه ليس بالمستحيل، متى ما توفرت الإرادة الصلبة، ووضحت الأهداف النبيلة، ورفضت الاستعانة التامة بالأجنبي، وفوق هذا وذاك تمسكنا بقيم الإسلام دينا وسلوكياته حضارة.

حينها فقط سنرغم الآخرين طوعا على احترامنا والكف عن الضحك من جهلنا.

تعليق عبر الفيس بوك