د.عبد الله عبد الرزاق باحجاج
تُشكل ظاهرة السَّرطان في بلادنا - أجارنا الله منها- رعبًا مرتفعًا في ضوء انتشارها وتصاعدها السنوي، فوفق الإحصائيات الرسمية، تسجل (1000) حالة سنويًا في بلادنا، فهل هي كذلك فعليا؟ أما العدد الإجمالي، فإنّ الإحصائيات القديمة تشير إلى أنّ عدد المصابين في السلطنة (19) ألف مصاب منذ العام 1996، حتى العام 2009، فماذا عن العدد بعد هذا العام الأخير إذا كان معدل الإصابة بهذا المرض (1000) حالة سنوياً؟ وفي تقرير خليجي يرجع إلى عام 2010، احتلت بلادنا المرتبة الثانية خليجياً في انتشار هذا المرض، فماذا الآن بعد مرور ست سنوات على هذا التقرير؟ وأوضح لنا مصدر موثوق به نقلاً عن مصدر طبي يرفض الكشف عن اسمه، أنّ هناك محافظتين- لن نسميهما - من أكثر محافظات البلاد إصابة بالسرطان، لماذا؟.
ربما علينا أن نترك الإجابة -اجتهادا- حتى تنتهي الدراسة التي تُجريها وزارة الصحة حول مرض السرطان في بلادنا، ونتمنى أن توفر لنا الوضوح المطلوب لواقع هذا المرض بدلاً من حالة الغموض الراهنة، رغم أننا نرى أنَّ هذه الدراسة قد جاءت متأخرة كثيراً، لماذا؟ المدهش المثير للاستغراب، أنّ كل مراكز أبحاثنا صامتة على انتشار هذا المرض دون أن تكون لنا قاعدة بيانات علمية عن المرض وأسبابه وانتشاره وعدد المُصابين به، لكن، وفق القاعدة الشهيرة، أن يأتي الشيء متأخرًا أفضل من لا يأتي أبدًا، وهذه القاعدة نمنن بها النفس استكانة وتعايشًا مع اللامبالاة، والدفع الذي يقف وراء فتح هذا الملف مجددًا اليوم، ما كشفته هيئة حماية المستهلك يوم الأحد الماضي عن جريمة بشعة جديدة من جرائم السلع المنتهية الصلاحية، فهل الدراسة ستبحث في علاقة السلع الفاسدة المُكتشفة بظاهرة السرطان المتصاعدة؟ خاصة وأنّه ومنذ إنشاء هيئة حماية المستهلك قبل بضع سنوات، وهي تسجل اختراقات مؤسساتية غير مسبوقة، آخرها تلك الجريمة التي تمس حقنا في الصحة بل وفي الحياة، وذلك عندما تمكنت من ضبط شركة موردة للمواد الغذائية مُتعددة السلع والخدمات بالجرم المشهود مؤخرًا تقوم بتمويل المراكز التجارية والفنادق والمحلات التجارية الكبيرة بسلعٍ منتهية الصلاحية ومزورة تجاوزت (4) آلاف سلعة، تأملوا معنا هذا الرقم الكبير والمقلق - الله يحفظ الجميع - هذا مساسٌ بجوهر الحق الوطني والإنساني في الحياة، فهل نردعه بالمئات والآلاف من الريالات أو بسجن مُحدَّد المُدة الزمنية أو بمغادرة البلاد فقط أم ينبغي أن نسارع إلى إعادة النظر في التشريعات والقوانين لكي تشكل عنصرًا حقيقيًا للردع؟ فتلك الجريمة تدل بما لا يدع مجالاً للشك على تعرُّض بلادنا لمُخططات خارجية بالتواطؤ مع بعض التجار في بلادنا - يحسن الظن البعض ويقول من أجل الربح السريع - لكن على حساب الأرواح؟ لا مجال للظن الحسن هنا، فالشركة الموزعة متواطئة فعلاً مع شركة كبيرة في الخارج، فهل وراء هذه العملية غير الربح؟ بمعنى، هل مجتمعنا مستهدف عبر عرقلته صحيًا؟ التحقيقات ينبغي أن تنفتح على مثل هذه الجوانب التي لدينا بها إحساس مرتفع، وإحساسنا نبني عليه قرارات إستراتيجية، ولم يخيبنا أبدًا، إننا نسمي تلك الجريمة بكبرى الجرائم الشاملة، الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنّها تستهدف المواطن والمقيم والسائح، ولأنّها تستهدف الكبير والصغير، ولأنّها تستهدف كل الشرائح والفاعلين في البلاد .. أي كل المجالات .. أي أنّها أُم الجرائم التي تمس الحق في الحياة، ومن المؤكد أنّ تلك الجريمة لم تكن الأولى لهذه الشركة، ولا لغيرها، ولن تكون مستقبلاً، كما أنّ هذا الإنجاز لهيئة حماية المستهلك لم ولن يكون الأخير ... إلخ وقد كتبنا عن إنجازاتها الداخلية والخارجية، ويكفينا فخراً بها أنّها كانت ضمن أفضل خمسة انتصارات تحققت للمستهلكين على مستوى العالم في 2013، والتساؤل العقلاني المُلح الذي يطرح هنا هو، كيف كان الوضع قبل إنشاء الهيئة عام 2011؟ ربما علينا أن نُحدِّث ولا حرج، وأن نرفع سقف التوقعات، بدليل ما تكتشفه الهيئة سنوياً من جرائم، فهل كان ينبغي أن تُغلَّ يدُ الهيئة يا حكومتنا الرشيدة؟ حاول بعض كبار الفاعلين في الحكومة، فبعض محاولاتهم نجحت وبعضها فشل، وبعضهم بسوء نية، وآخرين بحسن نية وفق ثقافتهم السطحية عن الاقتصاد الحُر، أو قلة وعيهم عن تجذر البعد الاجتماعي في الدولة العُمانية - حاضراً وماضيًا ومستقبلاً - بل إنّهم الآن يدعون إلى النيوليبرالية أي الحُرية الفردية المطلقة التي تطلق مُبادرات الأفراد وتشل مبادرات الدولة في المجالات الاقتصادية، ومن المؤكد أنّ هذا المفهوم الجديد للدولة لن يصلح في بلد مثل بلادنا التي تشعر بحمولتها الاجتماعية أكثر من أية حمولات أخرى ودون وجود الدولة في كل مَناحِي حياتنا لا يمكن أن نراهن على ديمومة الاستقرار والسلم الاجتماعي، لكن أي مفهوم جديد للدولة يصلح الآن لبلادنا؟ - سنتناوله في مقال مُقبل - وتعطينا تجربة هيئة حماية المستهلك رؤية لهذا المفهوم من جهة ورؤية واضحة لتداعيات الرهان المطلق على المُبادرات الفردية - إعادة بيع الآلاف من السلع والمنتجات الفاسدة أنموذجًا - بحيث أصبحت تستهدف الأرواح، وقد اطلعنا على دراسات تؤكد علاقة السلع والمُنتجات الفاسدة بالأمراض بما فيها السرطان، ماذا نتوقع من السلع والمنتجات الفاسدة والمُتعفنة المكتشفة التي تنوعت بين أصابع السمك مغلفة بالخبز ورقائق القمح وبسكويت بالحليب .. إلخ ففيها بعض المواد المسرطنة من أشهر مادة النتروزامين وهي مادة شديدة السرطنة، وتنتج هذه المادة بواسطة تناول ملح البارود وهو مادة نترات البوتاسيوم والذي يضاف إلى اللحوم والأسماك لغرض حفظ اللحوم على الحالة الرطبة وتثبيت ألوان اللحوم لمنع اللحم من أن يتحول إلى اللون الرمادي غير المرغوب تجارياً ومادة النتروزامين تحولها الجراثيم في الأمعاء بعد تناول الوجبات الحاوية على ملح البارود.
ودَدنا - والله العظيم - لو أننا نُسجل بالذهب اسم كل بطلٍ من أبطال هيئة حماية المستهلك، وددنا كذلك لو بإمكاننا أن نمنح أعلى الأوسمة الوطنية لهم، لكننا، نملك عبر هذا المنبر الصحفي، أن نبعث لهم تحية فخر واعتزاز بتضحياتهم رغم البيئات والظروف غير المواتية - أحيانا - التي يعملون فيها..
تحية إجلال وإكبار لكم أيها الأبطال الذين تواصلون الليل بالنهار وأنتم تواجهون المُجرمين للدفاع عن حقنا في الحياة وحقنا في الصحة- والأعمار بيد الله، تحية لكم منّا أيها الشرفاء وأنتم تتجشمون الصعاب كجنود مجهولين، إنّكم تعيدون إلينا الأمل في العطاء للوطن دون مقابل، بعد أن سلب منِّا، وأصبحنا لا نُدافع عن حق ولا نودي واجبًا إلا وطلبنا مقابله مالاً أو أرضًا أو منصبًا .. أنتم فعلاً أبناء بررة لوطن يستحق منِّا كل التضحيات، وبتضحياتكم المتواصلة تصنعون المستقبل .. وتحيوون سنة الله في الأرض بنص الآية الكريمة ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ البقرة، فقد أقتضَتِ الحكمة الإلهيَّة أنْ يَحدُث التِقاءٌ بين الحقِّ والباطِل، وأنْ يصير ثمَّة تدافُعٌ بينهما، وأنتم في موقف الدفاع عن الحق ضد الباطل، والنصر دائمًا معكم، استشعروا ذلك، واستشعروا المعية الإلهية، ومن يكن معه الله، كفى به نصيرًا .