السلم الأهلي يقوض التناحر العربي

عبيدلي العبيدلي

تجتاح صلب المواطن العربي موجة من الألم، وتعصر فؤاده ذبذبة من اليأس وهو يتابع أخبار الاقتتال الذي يكتسح الكيان العربي، ويُدمر أساساته من الداخل. وتُسيطر على المشاهد الأجنبي علامات التعجب والتساؤل عن الأسباب التي تقود العرب نحو تدمير الذات، وتمزيق الجسد الواحد.

فللوهلة الأولى يفترض كلا المشاهدين العربي والأجنبي على حد سواء، أنّ عناصر الوحدة والوئام تفوق في حضورها، ومن ثم تأثيراتها عوامل التنافر والتشظي، لكنهما لا يلبثان أن يُصدما بالواقع المليء بالتناحر، الذي لم يتوقف في أصوله الحديثة، عن تشكيل المشهد السياسي منذ ما يربو على نصف قرن.

فعناصر التوحد الحضاري تقول إنّ هذه الأرض العربية الشاسعة المُمتدة من المغرب حتى اليمن، تجمعها أديان سماوية تدعو للتسامح، وتشجع على التعايش المُشترك، وتنبذ العنف، وتحارب نفي الواحد منها للآخر. لكن الواقع المشاهد يُثبت أنّ شعوب المنطقة لم تكف عن الاقتتال فيما بينها على الأرض العربية، بينما نظيراتها من شعوب وأمم أخرى قبلت التعايش المشترك فوق أراضٍ أخرى غير عربية، بما فيها دول نامية مثل الهند والصين، أو دولة حديثة مثل أستراليا.

بل إنّ ظاهرة العُنف في التعامل بين أهل الأديان السماوية لم يقف، فوق الأرض العربية عند حدود الاقتتال الثلاثي بينها: اليهودية والمسيحية والإسلام، بل امتد عميقاً بشكل عمودي حتى تجاوز حدود الطائفة ووصل إلى المذهب الواحد ذاته. فشاهدنا الاقتتال المذهبي السني في دول مثل مصر، والتناحر الشيعي في مجتمعات عربية مثل اليمن.

وتفاءل المُراقب لمسرح الأحداث العربية، مع انتشار التعليم والاحتكاك مع شعوب مجتمعات أخرى يسودها الاستقرار رغم التنوع الحضاري فيما بين سكانها، واستبشر الجميع خيرًا مع بروز الفكر القومي وتشكل الأحزاب القومية، لكنه صدم عندما قرأ عن الحروب السورية - العراقية خلال فترة حكم تنظيم قومي واحد هو حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي ارتكزت دعوته على الحث السير على طريق تشييد أركان الوحدة العربية التي مزقتها صدامات الحدود الوطنية بين سوريا والعراق. والأمر لا يختلف عند تناول الظاهرة الأممية فوق الأرض العربية، فالمذابح الدموية في صفوف الحزب الشيوعي العراقي فاقت في بعض مراحلها تلك التي اندلعت بينه وبين فصائل أخرى غير أممية.

ولم يختلف الأمر عندما انتقل التشكل السياسي العربي إلى الأخذ بمقاييس العمل التنظيمي المدني المعاصر في التشكل الوطني والإقليمي، فتصاعدت دعوات التكتلات الإقليمية المتقاربة، فجاءت الثمانينيات ببروز كيانات سياسية إقليمية، من أبرزها مجلس التعاون الخليجي الذي لم يسلم هو الآخر من آلام التناحر التي كادت أن تصل إلى الصدامات المُسلحة. ورغم النجاحات المحدودة في ترسيم الحدود، لكنها لم تستطع أن تقتلع النزعة الفئوية من جذورها، فما تزال حدود دول مجلس التعاون السياسية، تُمزق الانتقال من الحالة الكونفيدرالية إلى الشكل الاتحادي الذي طالبت به بعض دوله. ولا يزال المواطن الخليجي، رغم كل الإنجازات التي تحققت على طريق التنسيق المشترك، عاجز هو الآخر قبل نظامه السياسي، عن تجاوز الهوية الوطنية لصالح شقيقتها الخليجية. ويتم كل ذلك تحت دعوات تبريرية تستعين بالبراغماتية السياسية في مواجهتها للحقائق التاريخية.

ما يحز في النفس، أنّ هذا الاقتتال ينمو لا بسبب جهل بمقومات التعايش المشترك، ولا بعيداً عن دعوات العقل التي تنبذ العنف في الوصول إلى سلم أهلي محدود يقوم على القبول بالآخر، بل هي تستمد جذورها، وتشتعل جذوتها من قوى لا تكف عن ترديد تراتيل السلام، وأناشيد المحبة، وجهات لا تتوقف عن التبشير بضرورة القبول بالآخر والعيش بسلام معه.

وتصل حالات الاستغراب قمتها، وتبلغ أوجها عندما يشاهد المراقب العربي قبل الأجنبي، أنّ قوى عربية تدعي قومية الانتماء، لا تتردد في الاستعانة بالأجنبي وتشيد بمواقفه منها، وهي تشن حربها على شقيقها العربي، أو تستجير به عندما ترفع مطالبها السياسية والإصلاحية في وجه منافسها في البلد الواحد. والنموذجان العراقي واللبناني مثالان صارخان يؤكدان هذه المسألة. استعان اللبناني بالكيان الصهيوني أكثر من مرة من أجل تغليب فئة على أخرى، واستغاث العربي - العراقي بجاره الفارسي كي يضمن تفوقه على منافسه العربي. والنتيجة الملموسة التي تدحض المُبررات، تمزق لبنان، وتشظي العراق.

وتمضي قافلة تهتك النسيج الاجتماعي العربي قدمًا لا توقف تقدمها دعوات إصلاح المطالبين سلمياً، ولا استغاثات نبذ العنف وحل المشكلات الاجتماعية والثقافية بعيداً عن فوهات البنادق، وانفجارات الأحزمة الناسفة، من أجل التوقف عن نفي الآخر ورفض القبول بالتعايش معه سلميًا، على أسس حضارية إنسانية قبل أيّ شيء آخر.

من الخطأ وضع الأسباب جميعها في إناءٍ واحدٍ، وسكبها في قالب دون سواه، فهناك العديد من الأسباب الموضوعية التي تفرز مثل هذا السلوك العربي، البعض منها يعود لأسباب خارجية، والبعض الآخر منها يستلهم عناصر قوته وحضوره من جذور تاريخية، في حين يرسخها ويكرسها اليوم عناصر لها علاقة بالفهم الخاطئ لقيم التنوير الحضاري، والتوعية الثقافية، بل وحتى أسس الواجبات الوطنية.

لكن ذلك المدخل الشمولي المترامي الأطراف الهادف إلى تشخيص المشكلة، ومعرفة الأسباب، لا ينبغي أن يحرف أنظارنا عن لبها وسببها الرئيس، ومكونها الأساسي، والذي يكمن في ذهنية التفرد، ويسكن في نفس من يبحث عن إرضاء الأنا على حساب القبول بالآخر والرضا باقتسام الحقوق معه، وينطلق من خلفية عدم التشبع الكافي بقيم السلم الأهلي ومكوناته الرئيسة.

باختصار شديد .. ليس هناك من بوسعه أن يقوض أركان معبد التناحر العربي سوى السلم الأهلي.

تعليق عبر الفيس بوك