ناصر الكندي
الشفافية شعار هذا القرن، فلطالما أخفت الأسرار الكثير من فظائع الفساد بداعي حماية الأمن، أو حماية الإنسان من الحقيقة! وتتبارى الوسائل الإعلامية في تفعيل هذا الشعار سواء في فضح خطط حزب معين أو في تسريب أوراق سرية تكشف الألاعيب الحكومية، وكتأكيد على الاستمرار في هذه المأثرة العظيمة صار من المُمكن الدخول حتى في الحياة الشخصية للإنسان وذلك في كشف علاقاته الغرامية أو الشاذة، والدخول في أسرار العائلة والعلاقات الزوجية للمسؤولين وتحديد أسباب الخلافات ومحاولة معرفة من هو البريء والمذنب، وقد يصل الموضوع إلى كلب العائلة أو قطتها إذا ما كان يعتنى بها جيداً أم لا، لأنّ أي ضبط لبادرة عنف أو قسوة ضدها هو مؤشر على أن هذا العنف سيصل لا محالة إلى الجمهور والرأي العام، ولذلك ينبغي أن تُعرّى أدقّ تفاصيل الحياة لأيّة شخصية عامة، وأن ترصد أية اختلافات بين حياته العامة والشخصية لأنّ أي اختلاف يعني النفاق، والنفاق تهمة عصر الجماهير.
تخبرنا تلك القصة القديمة عن صراخ ذلك الحلاّق في البئر بأنّ أذني الحاكم طويلتان كأذني حمار وذلك كتفريغ عن مكنوناته من الأسرار التي لم يتحمل بطنه أن يخفيها، والذي انتهى بإذاعة هذا الخبر من خلال الأشجار مثل كورال أمين للحلاّق. في ذلك الزمن مازال مقياس الشفافية مرتبطا بمؤشر الصدق، أي أنّ إخفاء ما لا يُخجل يعتبر منقصة. ولكن كشف ما يخجل ظلّ في ذلك الزمان محمياً بقوانين الطبيعة البشرية الناقصة التي تعترف أن كل إنسان له الحق أن يحتفظ بالأسرار التي ينبغي أن توصد بمفتاح الخصوصية، فالصدق ليس فضيلة دائماً خصوصاً إذا تمت تعرية الذات أمام جمهور غير مرئي لا يعنيه من هذه الذات سوى تخبطاتها ..
أما في هذا العصر، فكعكة الفضائح الشخصية صارت تقدم للجمهور محلاّة بعذر الشفافية النبيلة، وتقاس النوايا العامة بالنوايا الشخصية، لدرجة بلغ أن أحد المعجبات بالممثل "توم كروز" أرادت رفع دعوى قضائية عليه لأنّه كذب وخيّب أملها في إحدى الحوارات بشأن نفي وجود شعر على ظهره، والذي أكده أحد الجواسيس النبلاء حين تسلّل إلى بيته وصوره وهو يسبح في بركة السباحة! ناهيك عن ملاحقة الصحفيين بعدساتهم المثابرة للراحلة الأميرة ديانا والذي انتهى بها المصير في حادث سببه هروبها من أحدهم لتحاول أن تنجو بقدر ضئيل من أسرارها الشخصية!.
وفي زمن وسائل التواصل الاجتماعي، صار الجمهور ينهش نفسه بنفسه في تعرية الذات أمام الجميع، سواء بإرادة الشخص نفسه أو رغماً عنه، ويبدو أن بعض مصطلحات التحليل النفسي ستسحب من التداول مثل النرجسية، فالنرجسية أصبحت واقعاً أكثر منه مرضًا، ولا يخجل صاحبها أن يظهر بأسوأ تشوهاته النفسية والسلوكية إذ يتم الحكم عليه بالقبول من خلال كمية نقرات الإعجاب عليه، بل إنّ هذه التشوهات قد تصبح لاحقاً موضة ينبغي الاحتذاء بها، ويذوب تحت وطأتها ذلك الثقل الأخلاقي الذي كان يحتضن مفاهيما كلاسيكية مثل التواضع والإحساس بالآخر والاعتداد بالذات وعدم بيع وعرض آلامها للآخرين والاحتفاظ بذلك النسغ اليسير من الخصوصية الضرورية.
للحياة إيقاعها الخاص كما للموسيقى إيقاعها الخاص، فالمستمع للموسيقى يستطيع رصد نشاز لحنها وخروجها عن الذائقة السليمة. وكذلك هي الحياة، فعندما يتطرف العقل وتشتد العواطف تكون النتيجة غالبًا غير مشجعة، مثل حال الجاذبية للكائنات والبحر، إن تقاربت الأجرام اختل النظام. فالمطالبة بالشفافية في الحياة العامة لا يعني معه الحق بالتوغل في الحياة الشخصية، فعالم النوايا هو عالم الإنسان المقدس، يستطيع هو نفسه أن يعبّر عنه في اعترافاته أو سيرته، وحتى في هذه الاعترافات لها إيقاعها الخاص الذي يختل توازنها عند التطرف كما هو الحال في وسائل التواصل الاجتماعي إذ جعلت كل شيء خاضعاً لقانون التنافس الاجتماعي العاطفي وتأكيد الأفضلية في إقناع الآخرين ومسرحة الموقف، فهناك من يريد أن يثبت أنه متأثر بمصاب معين وغيره يريد أن يثبت فرحه وغيرته وذلك تحت ضغط الآخر المسرحي.
وبما أن قافلة الحياة تمضي وجنون الذات مستمر، فلابد من وجود ضحايا لهذه الشفافية المرّة، فمنهم من تُستغَلُّ نزواته وتنشر للعلن في زمن يصبح فيه العار أبدياً ومحيط المتابعين خياليا، لتلصق به تلك اللطخة مثل وشمٍ خالد في شخصيته، فلا مصير له سوى أن يكون علكة للنفاق الجماهيري الاجتماعي المرعب. والإشكالية أن التقدم التكنولوجي والديمقراطي لا يواكبه دائماً تقدم أخلاقي، فاستكناه أسرار الإنسان صار مفخرة هذا القرن وأحد إنجازاته بعد أن كان عصيا، ولكن للأسف لا يرافق هذا الفضح ذلك القدر المساوي من التسامح بل يظهر العنف والتشفّي من الضحية بطريقة سادية وكأنه معروف أمام الجميع! وحسب المعلومات لبعض الدراسات العلمية فإن الإنسان سيكون شفافا أكثر بعد أن تكشف شيفرة نواياه في المستقبل بأدوات مخبرية، سيكون من الأفضل أن نراهن على مصير الإنسان الذي سيأكل نفسه بنفسه.