بيان الصحة: استعراض على حساب الصحة

د. سيف بن ناصر المعمري

تابعت مع كثيرين بيان وزير الصحة أمام مجلس الشُّورى، وما دار فيها كان استرجاعاً لما دار في الدورة السابعة لكن بلغة أكثر حدة من الطرفين، ربما كان سببها هو البطء في الوفاء بالوعود التي قال أعضاء المجلس إنّ معالي الوزير قد أطلقها في الدورة الماضية لكن لم ينجز منها إلا النزر اليسير، بل إنّ رئيس اللجنة الصحية بالمجلس قال إنّ ما أنجز من الخطة الخمسية التاسعة في القطاع الصحي لم يتعدى 36% وهي نسبة متواضعة جدًا توحي بوجود إشكاليات تُؤثر على جودة الخدمات الصحية المُقدمة، وهو ما يدفع المواطنين إلى اللجوء إلى الخدمات الصحية الخاصة إما في الداخل أو في الخارج وكنت من ضمن هؤلاء الذين اضطرهم هذا الواقع إلى السفر بحثًا عن العلاج لوالدي، وفي ذلك المستشفى الذي قصدته في تايلند وجدت مئات من العُمانيين والخليجيين الذين جاءوا بحثاً عن العلاج وتألمت كثيراً وقلت لنفسي هل عجزت دول الخليج بنفطها واستثماراتها وثرواتها عن توفير رعاية صحية ذات جودة عالية لهذه الأعداد الصغيرة من السُكان في كل بلد يجنبهم عناء السفر وبعضهم في حالات صحية صعبة.

لا نُريد أن يتحوّل هذا البيان إلى مصدر "لفرقعات صحفية"، كما لا نُريد أن يكون أهم ما يلفت نظر النّاس فيه هو التحدي الذي جرى بين أحد الأعضاء ومعالي الوزير، ولا نُريد أن يكون أهم شيء للكادر الذي يعمل مع معاليه هو "تهنئته على إفحام بعض الأعضاء"، لا نُريد كل ذلك لأنّه لن يقودنا إلى الفهم المشترك بأنّ هناك إشكاليات تتراكم وتتداعى في القطاع الصحي، وإذا لم نعترف بتلك الإشكاليات جميعاً فذلك يعني أننا لن نتخذ أي إجراء لحلها، يجب علينا أن ندافع عن حق المواطنين في التمتع بخدمات صحية تكفلها لهم الدولة، لا أن نسعى للدفاع عن أنفسنا ومراكزنا وكراسينا وامتيازاتنا، سواء كنّا في وزارة الصحة أو كنّا في مجلس الشورى.

والأسئلة التي يجب أن نطرحها بعد هذه الجلسة هي: هل النظام الصحي في عُمان بهذا السوء الذي ذُكر؟ وهل الأمل ضعيف جدًا في الارتقاء بالخدمات الصحية والوصول بها إلى درجة يقل فيها عدد المسافرين الذين يسافرون للعلاج؟ هل هناك شيء آخر لم تفعله القيادة الحالية للوزارة للنظام الصحي ويمكن أن تفعله الآن؟ أنا على يقين لو طرحت هذه الأسئلة على المواطنين ستكون إجاباتهم "نعم"، وربما نعذرهم لأنّ كل واحد منهم لديه تجربة ربما تكون صعبة في المستشفيات أدت إلى تزعزع ثقته بالنظام الصحي، قد تكون خطأ طبياً أو تأخرا كبيرا في موعد طبي أو عدم وجود تشخيص دقيق للحالة المرضية مما يدفعه إلى تجشم عناء السفر وتكاليفه الباهظة، بينما إجابات الوزارة المُشرفة على القطاع ستكون "نعم" لأنّ لديها أرقامها حول نمو عدد العيادات والمراكز والمُستشفيات، ولها مؤشراتها في القضاء على كثيرٍ من الأمراض المُعدية، ولها مؤشراتها حول عدد الكوادر العاملة في المستشفيات، ولها مؤشراتها حول عدد العمليات الجراحية التي تجرى كل عام، وبالتالي هناك نقاط ضعف ونقاط قوة، ويجب على الطرفين أن يعترفوا وبشفافية بذلك، لأنّ التمحور حول جانب واحد لا ينقل إلا بعض تفاصيل الصورة التي يراها البعض قاتمة في حين يراها آخرون مشرقة.

يبدو أن هناك أربع قضايا محورية يُعاني منها الوضع الصحي في عُمان؛ ولابد من العمل على التعامل معها برؤى استراتيجية بدلاً من الدوران حولها، النقطة الأولى هي مرتبطة بالحق في الصحة وهو حق دستوري يجب أن يتمتع به أيُّ مواطن، ويجب أن توفره الدولة على أفضل مستوى، لكن الوضع الحالي يؤثر على التمتع بهذا الحق؛ فعلى سبيل المثال يدفع ضعف عيادات الأسنان والعيون في المراكز الصحية الناس للعيادات والمستشفيات الخاصة؛ أما النقطة الثانية التي تقود إلى نفس النتيجة فهي قلة أعداد الكوادر الوطنية المُدربة على أفضل مستوى، وضعف سبل تهيئة سبل الاستقرار لها من حيث الامتيازات المادية والوظيفية، فالمعروف أنّ الأطباء اليوم أصبحوا عملة نادرة جدًا، وليس من السهل استجلاب أفضلهم إلى داخل البلد إلا إن حصل على الامتيازات التي توازي خبرته ومؤهلاته، ولذا من الأفضل بناء كوادر وطنية وعدم التفريط فيها، لأنّ مسيرة الحصول على استشاري طويلة وشاقة، وإن حصلنا عليه لا يجب أن نُفرط فيه كما اعترف معاليه أن "99" طبيباً عُمانياً استقالوا لأنهم حصلوا على عروض أفضل، فهل من المنطقي أن نفرط فيهم نتيجة لأن اللوائح لا تسمح بتقديم نفس العروض لهم؟ وهل يعقل أن تستمر هجرة الكفاءات الوطنية للخارج في وقتٍ نقوم فيه باستجلاب عناصر أقل منهم كفاءة؟ جوانب لابد أن يتم التفكير فيها، لأنّ أيّ نظام صحي لا شيء بدون أطباء على مستوى عالٍ حتى لو كان يمتلك أفضل المباني والتجهيزات، أما النقطة الثالثة فهي مواءمة التعليم مع الاحتياجات الطبية، وتجويد ما يُقدم من برامج، لأنّ البرامج الطبية حاليًا محدودة لأنّها ربما تكون مُكلفة لكنها ليست أكثر كلفة من ألا يكون لديك عدد كافٍ من الأطباء الذين تحتاجهم لتشغيل مؤسساتك الصحية، أو أن تعمل على إدخال طلبة في تخصصات طبيبة وأنت تدرك ألا فرص عمل مُتاحة لهم، فانظر كيف تهدر الموارد البشرية والمادية، أما القضية الرابعة فهي الخصخصة التي لم توفر للناس البدائل المطلوبة التي تجعلهم يتجنبون السفر، فكثير من المستشفيات الخاصة تتقاطع مع المستشفيات الحكومية من حيث تقاسم الكوادر التي تعمل فيها، ويحدث أحيانًا أن يقول الطبيب في المستشفى الحكومي للمريض يمكن لك أن تزورني في عيادتي في المستشفى الخاص من أجل علاج أفضل.

إنّنا بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى أن نلتفت إلى الوضع الصحي، ونتعامل مع متطلبات تطويره بشكل مختلف، وأن نبدأ في وضع النقاط على الحروف، لأنّ الفرص والإمكانات المتاحة تتطلب إدارة متحفزة لاستثمارها بشكل يقود إلى بناء نظام صحي متطور يوفر كل ما يحتاجه المواطنون ويغنيهم عن السفر والحرمان من حق صحي مكفول لهم، وهناك دول تتمتع بإمكانات وموارد أقل منِّا، وتعيش ظروفاً صعبة لكنها قدمت نموذجا في تطوير نظام صحي يشيد به العالم وسوف أسلط الضوء في مقال الأسبوع القادم على إحداها، حتى أعطي مثالاً واحداً فقط على أن أهم شيء نحتاجه لتطوير النظام الصحي هو الإرادة ثم الإرادة ثم الإرادة وبعد ذلك تأتي العناصر الأخرى.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة