معاوية الرواحي
التعرف على عقولٍ صديقة من الأشياء الجميلة التي تسمح بها الحياة. نتحدث عن الصداقة هنا بالمعنى الفني الحرفيّ، فلقاء واحدٌ لا يكفي لمعرفة أبعاد الإنسان النفسية والعاطفية، الأبعاد التي تشكل قرار الصداقة الحياتي المُتعارف عليه، صداقة العقول تحمل شيئًا من كل ذلك، ولكنها تتخلص من أثقالٍ كثيرة، منها الحاجة إلى (عطْفَنة) الصداقة لتحمل المعنى الاجتماعي المعتاد.
التقيت قريبًا بمدون عُماني، والمصادفة الجميلة أنّ والده الكريم كان من أبرز أساتذتي في المدرسة، وكان ذلك قبل 15 سنة من لقائي بابنه. كان من المفترض أن يقال اقتراحي لهذا الصديق في لقاء واقعي، فكرت لاحقًا: لم لا أكتب مقالاً عن الموضوع لتعمّ الفكرة؟ أقول الفكرة لا الفائدة فالأمر يعتمد على القارئ وخياراته في المادة المعرفية.
ما هي الموسوعية الجديدة؟ ولماذا هناك موسوعية جديدة وقديمة؟ أرى أنّ المقال سيحمل بعض إجابة لبعض العقول القادمة عن سبب الاختلاف الحتمي الكبير بيننا وبينهم، بين من هم يشقون الطريق إلى الأربعين بجنون وهوس، وبين من يمشون في سنوات العشرين مشي الهوينى، وعلى (الراحات كما يقول الجيل الجديد).
الموسوعية القديمة فكرة بسيطة للغاية، تعتمد على (منتج) بشري شهير اسمه الكتب أو الأشرطة أو الأسطوانات، أو على الفيديو، وبذلك غطينا المرئي، والمسموع، والمقروء. الموسوعية القديمة تعني أن يكون لك شغف بنوع ما من المعرفة كالطبيعة مثلاً. في جوارنا عشرات الموسوعيين في مجال الطبيعة وربما لا يعلمون أنّهم وصلوا إلى الموسوعية بسبب عادة الموسوعية المقيتة (جلد ذاته) والشعور بالجهل، ولو جئنا إلى عالم الأرقام الذي يجعل الحياة واضحة، ستجد أنك أمام عقل شاهد آلاف الوثائقيات عن الطبيعة، وقرأ مئات الكتب عنها، ومع ذلك يجلس معك للمرة الأولى وأنت لست إلا مبتدئاً في عالم الوثائقيات لكي يأخذ منك المزيد من المعرفة، هذا شيء مقرف بشكل جميل ومعتاد في الموسوعيين، وهو جزء من جمالهم ونموّهم المعرفي، البعض يتجاوز هذه الأزمة، والبعض يبقى فيها للأبد.
لماذا هو مقرف؟ لسبب بسيط، لأنّه ينسى شيئاً اسمه الإنتاج الذي يعني في محور آخر العطاء، ينسى أن عقله يحمل معرفة يمكن أن تغير أشياءً كثيرة في الحديقة المعرفية لمن حوله، عائلته، مجتمعه، وطنه، بل حتى مدرسته، أو محيطه الجامعيّ.
يتشابه الموسوعي الجديد، مع الموسوعي القديم في الدوافع والبواعث والحالات العاطفية النفسية، والنزق الشديد تجاه المعرفة وعدم الملل منها ومن جديدها، ولكن في عُمان شتّان بين موسوعيي الأمس، وموسوعيي اليوم.
لغة الأرقام تحكي لك حكاية بسيطة، في السابق يخوض العقل الموسوعي بكَ غمار الكتب، لذلك تُحاصرك الكتب وتحاصر نفسك بها وتقرأ إلى الأبد، على الهامش كان المنتج الأكثر توافرا في عمان وغير عمان هو الكتب كانت هي فعلا اختيارنا الأول لأنها اختيارنا الوحيد.
قبل الفورة التقنية التي انطلقت منذ عام 2005 فصاعداً، النت الذي وفّر المعلومة لكل إنسان وأزاح بعض الشيء الحاوية المعرفية السابقة، الكتاب والشريط المسموع أو المرئي. حينها وجد الموسوعيون (بتوع زمان) عالمًا جميلاً للغاية، عقولهم تعودت على القراءة، والآن لديهم خيارات بصرية، أحد الموسوعيين الذين أعرفهم يرتاح من مذاكرة تخصصه الطبي بقراءة كتاب، ويريح عينه من القراءة بمشاهدة وثائقي، ويريح عقله من كل ذلك بالنوم، يقترب من الأربعين ونسي الزواج والعائلة لأنّه يشعر أنّه أغبى إنسان في العالم وأنّه لا يعرف شيئًا، لا تستغرب، هكذا هم كلهم، ومن عرفت من الموسوعيين ستجده يعاني من الحالة ولا أقول المشكلة نفسها.
اختلف الوضع الآن، الوثائقيات العشرين التي كنّا نراها في العام عبر حالات استعارة الأشرطة (لا تعود) من الأصدقاء، أصبحت خمس وثائقيات في اليوم، أصبحت ملفاً من ملفات التورنت تحمل لك كتلة معرفية مذهلة عن الحياة في خمس ساعات. خيارات!!! وهذه الخيارات ليست في وعاء المعرفة، وإنما أيضًا في نوعها وهذا الأهم.
فكرة الموسوعية الجديدة التي أقترحها، والتي ألاحظها تنمو الآن في عُمان، هي فكرة القارئ الشمولي المتخصص في أشياء قد لا تبدو متآلفة، ذهب التصنيف الشرس الحدي بين العقل الديني والعقل الثقافي مثلاً، التقى الطرفان في المنتصف أمام علم (نقد المعرفة) ووجد القارئ العُماني (مساحة هائلة جدًا) نزلت عليه، بخياراتها، في مواقع نقد القراء، وفي اليوتيوب العظيم الرائع، وفي الفيس بوك اللعين وتويتر البغيض، كلها تحمل رسالات جعلتنا ندرك أخيرًا أنّه (لن نقرأ 10 كتب في يوم واحد)، وإننا لو أنفقنا كل الوقت لنشاهد الوثائقيات الرائعة، لذهب العمر ووصلنا للتسعين ولم نشاهد (أيّ شيء). الحاسوب حافل بوجبات معرفية تكفينا ولو عشنا 200 عام.
الآن أصل إلى الفكرة التي وجدتها واضحة في عقل هذا الإنسان. ولمست بداياتها في مدونته ستجد في الجيل الجديد شيئًا مختلفًا، ستجده يحمل ثقافة دينية متأصلة فيه، ولكنه مثلاً (رياضي) ويعلم كل شيء عن الرياضة ويعلم عن خطة شوارزنيجر وانتقادات لاعبي كمال الأجسام عليها، كذلك ستجد مثقفًا يكتب الشعر والقصة ويسرد لك كل شيء عن ريال مدريد، أو عن كافكا، أو عن علاقة الكتاب الألمان بالحزب النازي، ستجد خبيرًا في تربية العناكب تعلم تربيتها عبر اليوتيوب ويبيعها عبر البريد بعد تعلمه فن تغليفها وهو يعمل مدرس موسيقى. الموسوعية الجديدة تملؤك بالشتات، ولكنها تعطيك نتائج نهائية مذهلة وفردية حتى النخاع.
الموسوعية الجديدة استغلال عبقري لظروف العصر، وهي تحول المعرفة من أداة تخزين مرجعية جامدة إلى عقل ديناميكي، عقل (يفعل) ويعمل. مثل هذه العقول ستجد غربة بعض الشيء في التعامل مع عقولنا التي نشأت في عالم انتظار معرض الكتاب ولن تفهم دموعنا الحارقة التي نزلت عندما أغلقت مكتبة ركن الكتاب لأسباب اقتصادية بحتة. الموسوعية الجديدة هي سمة العصر القادم وهي التي ستسود، وأجمل ما في المعرفة أنّ الموسوعي القديم يفتح بابها بخبرته، بينما يفتح العقل الشاب أبوابها العديدة بشغفه، ويلتقي الجميع في عالم الأفكار المدهش، لصناعة فكرة رائعة، أو لاجتراح لقطة فنية جمعتها عقول تشاهد العالم بحواسها الداخلية.
المجد ليس للإنسان، ولكنه للمعرفة، إنّها هي التي تُعبر خلاله، وتصنعه، وتهدمه في وقت واحد، وهي التي تمر عبر كمائن الخلايا وتهرب منها، نحن العابرون، والمعرفة هي الباقية، عالم النت بكل ما فيه احتمالي بحت، يزول بفيروس واحد، أو بقنبلة نووية واحدة لن تستبدل الذاكرة الورقية ـ كما آمل ــ وهذا التوازن المذهل بين المعرفة ونواقلها هو الذي جعل الحجر الفرعوني تاريخاً، وهو الذي ربما سيجعلنا هباءً منثورا لو راهنّا على غير الورق، لو كان بيدي أن أطبع كتابًا من الحجر لفعلت، لكن كما يبدو، الورق أفضل وأجمل، وهي وثيقة تختارها الأفكار لحياة أطول، وأجمل.