هل هناك أمة عربية؟

زاهر المحروقي

تبدو فكرة الأمة العربية الواحدة هذه الأيام، وكأنها كانت مجرد أوهام لأناس حالمين؛ فما حدث خلال العقود الأربعة الأخيرة في هذه الأمة، يُظهر أنّ مجرد طرح هذه الفكرة، إنما يدلُّ على خلل في التفكير؛ فمصر التي قادت الأمة في مواجهتها للكيان الصهيوني الذي اغتصب فلسطين، كانت السبَّاقة في التخلي عن النضال العربي ضد هذا الكيان، وذلك بعقدها صلحاً منفرداً مع إسرائيل، وما تبع ذلك الصلح من غزو إسرائيل للبنان.. وتشتيت منظمة التحرير الفلسطينية، وإنهائها كحركة مقاومة، حتى لجأت إلى محادثات أوسلو، ثم الحرب العراقية الإيرانية، واحتلال العراق للكويت، وما تبع ذلك الاحتلال من مآسٍ ضد الأمة العربية. كلُّ ذلك حدث مع ظهور أكثر من دولة تريد أن تملأ الفراغ المصري، حتى تم تدمير دولة عربية محورية مثل العراق بمشاركة الدول العربية، ثم جاء ضمن سلسلة المآسي التي لحقت بالعرب تقسيم السودان، وتدمير قلعة عربية أخرى هي سوريا؛ فكان من نتيجة كلِّ ذلك أن زاد الانقسام العربي، فصارت هناك أكثر من جبهة عربية تحارب جبهة عربية أخرى على حساب قضية العرب الأساسية وهي القضية الفلسطينية التي تراجعت عن الاهتمام الرسمي للحكومات العربية، قبل أن تختفي من أذهان الجيل العربي الجديد، الذي وجد أمامه فجأة حرباً مذهبية شعواء لم تترك أخضرَ ولا يابساً، ووجد أنّ وسائل الإعلام تسوِّق لعدو جديد هو إيران.

وما كتبه زلمان شوفال في صحيفة "إسرائيل اليوم" عدد 18/4/2016، فيه ما يوضح التراجع الكبير للقضية الفلسطينية في اهتمامات الشباب العربي؛ إذ يشير إلى أنه في الاستطلاع الشامل الذي أجري في 16 دولة عربية في أوساط الشباب في أعمار 18-24 سنة، أجاب ثلاثة أرباع منهم أنّ التهديدات الأكثر خطورة على الشرق الأوسط، حسب الترتيب هي: داعش، الإرهاب، التآمر الإيراني، البطالة، غياب الاستقرار الاستراتيجي، غلاء المعيشة، غياب القيادة القوية، عدم وجود الوحدة العربية، غياب الديمقراطية وغياب القيم. ويشير شوفال إلى أنه عند أقل من الربع تظهر كلمة إسرائيل في قائمة "المشكلات والتهديدات" وإذا ظهرت فإنّها تظهر على استحياء، في الترتيب السابع.

وينتقد زلمان شوفال الرئيس الأمريكي باراك أوباما لأنه لم يفهم بعد الرسالة التي تبثها الآن حليفات أمريكا في العالم العربي؛ وهي: الأمر الذي يشغلنا بشكل حقيقي ليس إسرائيل وصراعها مع الفلسطينيين، بل الهجوم الإيراني ومطامعها في السيطرة على المنطقة. ويبدي شوفال استغرابه لأنّ أوباما ذكر أنّ إيران تستحق أن تكون شريكة للسعودية في السيطرة على الشرق الاوسط، ويقول بعد نقل ملكية جزيرتي تيران وصنافير إلى السيادة السعودية: "إنّ الرياض قد أخذت على عاتقها كلَّ الالتزامات في اتفاق السلام الإسرائيلي المصري في مجال حرية الملاحة في خليج العقبة. وكان يُفضّل لو أنّ السعودية تعهدت بشكل مباشر وموثق لإسرائيل بهذا الأمر من أجل توسيع العلاقة السياسية بين إسرائيل والعالم العربي. إنّ صفقة التبادل بين مصر والسعودية هي شهادة أخرى على ما جاء في الاستطلاع المذكور: الواقع الجديد في الشرق الاوسط، وعلى خلفية تهديدات داعش وايران، قد يؤدي مستقبلاً إلى بناء جسور سياسية بين جزء من العالم العربي ودولة إسرائيل".

يرفض هنري كيسنجر المفكر الإستراتيجي ووزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق فكرة "الأمة العربية" أو "الوطن العربي الواحد"، وكان في كلّ لقاءاته مع المسؤولين العرب يركز على هذه النقطة ويقول يجب أن يتم النقاش عن كلِّ دولة على حدة، ويرفض فكرة ربط الأحداث الحالية بالتاريخ، وهذا ما لجأت إليه إسرائيل أيضاً فيما بعد في المحادثات العربية الإسرائيلية، إذ أصرت على فصل المسارات ورفضت مفاوضات المسار العربي الموحد. وإذا كان كيسنجر أحد المهندسين الكبار للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ابتداء من عام 1973، وبفضل أفكاره وسياساته استطاعت إسرائيل أن تتغلب على العرب وتنهي فعلياّ مصطلح "الأمة العربية"، فإنّ كيسنجر يرسم صورة قاتمة عن أوضاع الأمة العربية في كتابه "النظام الدولي"؛ فحسب قراءة الدكتور محمد كمال، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة للكتاب، المنشورة في مجلة "آفاق سياسية"، فإنّ كيسنجر يفرد فصلاً مستقلاً للشرق الأوسط، يحدد فيه أنّ بناء نظام دولي جديد يواجه تحديّين أساسيّين في الشرق الأوسط؛ التحدي الأول يتعلق بتيار الإسلام السياسي الذي يعارض الأسس التي يقوم عليها هذا النظام، أما التحدي الثاني فيرتبط بحالة التفكك والانهيار التي تواجهها العديد من الدول في هذه المنطقة. وبالنسبة للتحدي الثاني يشير كيسنجر إلى أنّ المشكلة الأساسية التي تواجه العديد من البلدان العربية اليوم هي تفكك الدولة إلى وحدات قبلية وطائفية ودخولِها في صراع عنيف مع بعضها بعضاً، والتلاعب بها من خلال قوى خارجية متنافسة، أما عن الثورات التي حدثت في الوطن العربي، فيرى أنها لم تؤد إلى ظهور سلطة جديدة تحظى بالشرعية والقبول من غالبية المواطنين، وبالتالي أدت إلى زيادة الخلاف بين القوى المتناحرة ودخولها في صراعات مفتوحة على السلطة، وأدى ذلك إلي انجراف أجزاء من الدولة إلى الفوضى والتفكك أو حالة التمرد الدائم، وأصبحت الحكومة المركزية غير قادرة على إعادة تأسيس سلطتها علي مناطق داخل حدودها، أو على كيانات مثل تنظيمي القاعدة وداعش؛ ويشير إلى أنه من الخطأ النظر للحرب في سوريا على أنها صراع من أجل الديمقراطية وتطبيق معايير حقوق الإنسان، وإغفال أنها صراع له أبعاد تتعلق بالجغرافية الدينية والجغرافية الإستراتيجية، حيث إنّ الغالبية الساحقة من القوى المتصارعة في سوريا لا تنظر للحرب على أنها صراع بين ديكتاتور وقوى ديمقراطية، ولكنه صراع يتعلق بأيِّ من الطوائف الرئيسية في سوريا سوف تنجح في السيطرة على الآخرين والسيطرة على ما تبقى من الدولة السورية. (وهي نقطة نتفق معه فيها لأنّ فيها من الصواب ما فيها، هذا إذا لم نتطرق إلى المؤامرات العربية والدولية ضد سوريا لخدمة المصالح الإسرائيلية)، ويرى كيسينجر أنّ الصراع بدأ بالفعل في إعادة رسم الخريطة السياسية لسوريا، وربما لمنطقة الشرق الأوسط ككلّ، أما في ليبيا فقد أدى إسقاط القذافي -حسب كيسنجر- إلى سقوط آخر مظهر من مظاهر الحكومة المركزية وإلى قيام القبائل والمناطق بتسليح أنفسها لتأمين حكم ذاتي، وعلى الرغم من أنّ الحكومة المؤقتة في طرابلس قد حصلت على اعتراف دولي لكنها لا تستطيع ممارسة السلطة خارج حدود المدينة، فقد تكاثرت الجماعات المتطرفة، وأثّرت على الاستقرار في الدول المجاورة.

بعد تلك الصورة القاتمة يحق لنا أن نسأل: هل هناك ما يدعو للتفاؤل حول مستقبل الدول العربية؟ وهل هناك الآن ما يمكن تسميته فعلاً بأمّة عربية واحدة؟! إنّ المشكلة تكمن في أنّ حقيقة وجود الأمة قد طالها الشك الآن، بل إنّ هذا الشك كان قد طُرح منذ سنوات بعيدة، والأمةُ العربيةُ كان فيها شيء من بقايا الرمق، وذلك عندما ذكر محمد حسنين هيكل في كتابه "آفاق الثمانينات" أنّ كثيرين في أمريكا وأوروبا سألوه: هل هو واثق أنّ هناك بالفعل أمة عربية واحدة؟، لأنهم تصوروا ذلك في وقت من الأوقات، والآن تراودهم ظنون أنهم قبلوا بالفكرة تحت ضغط إلحاح العرب عليها، حتى جاءت التطورات فإذا الكيان العربي الذي رفعوه إلى مرتبة الحقيقة يتفكك أمام عيونهم ويتشرذم وتذهب أطرافه كلّ إلى اتجاه.

كان ذلك كلام هيكل في العام 1981، وكم من الأحداث المؤسفة التي مرت بالأمة من ذلك العام إلى يومنا هذا وكلها تكرس فكرة تشتيت الأمة الواحدة؟

ومن الأسباب الرئيسية لغياب دور الأمة: غياب القيادات العربية الوطنية وغياب الدول الأساسية التي لعبت دوراً أساسياً في تحرير الأوطان العربية من نير الاستعمار، وظهور دويلات لم تساهم في بناء الأمة بل لعبت دوراً أساسياً في التشتيت والتآمر، لأنّ الله وهبها المال فقط، فظهرت أكثر من دولة فاشلة في الوطن العربي، ففقدت الحكومات السيطرة على نطاقها الجغرافي فتحولت الأوطان إلى مناطق فراغ وقاعدة للإرهاب، وظهر التحريض الطائفي في كلِّ مكان مثل العراق وسوريا والصومال وليبيا ومصر واليمن، ولبنان.

واستناداً لهنري كسينجر؛ فإنّ استمرار هذا الفراغ قد يؤدي إلى اشتعال مواجهة في الشرق الأوسط شبيهة بالحروب الدينية التي سادت أوروبا في القرن السابع عشر، حيث تتداخل الصراعات الداخلية مع الصراعات الدولية، ويتم استخدام الدين لتحقيق أهداف إستراتيجية وسياسية.

وإذا أراد المرء أن يخدع نفسه فيجب أن يُقنع هذه النفس أنّ هناك أسباباً للتفاؤل بمستقبل الأمة العربية، التي آل أمر قيادتها الآن إلى المتآمرين والأقزام.

تعليق عبر الفيس بوك