قراءة في ملف اللجنة العمانية لحقوق الإنسان

د. صالح بن هاشل المسكري

عرّفت الأمم المتحدة حقوق الإنسان بأنها "ضمانات قانونية عالمية لحماية الأفراد والجماعات من الإجراءات الحكومية التي تمس الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية" وقدّمت الجمعية العامة الإعلان العالمي لهذه الحقوق على أنه "المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم" ومعروف أنّ حقوق الإنسان جرى تصنيفها إلى ثلاثة أجيال، الجيل الأول: تناول الحقوق المدنية والسياسية كحق الحياة وحق الحرية وعدم التعرض للتعذيب وحق الجنسية والمشاركة السياسية وحرية الرأي وحق التعبير، والجيل الثاني: تضمّن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومنها حق التعليم والرعاية الصحية وحق العمل، فيما خُصص الجيل الثالث: للحقوق التنموية والبيئية والعيش في بيئة نظيفة مصونة من التدمير.

واحترم العُمانيون قضايا حقوق الإنسان والحُريّات العامة واعتنوا بها ومارسوها في عاداتهم وتقاليدهم ومجالسهم وتعاملاتهم اليومية، وفي علاقاتهم بالشعوب والحضارات التي اختلطوا معها منذ أزمان بعيدة، تطبيقاً لمبادئ الإسلام السّمحة في كتاب الله المُنزل (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) وسنة نبيه المُرسل "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَهُ" وذلك قبل أن تتفجر الحروب والكوارث الإنسانية في العالم، ويجبر الناس على السير على قضبان الدساتير والقوانين واللوائح والاتفاقيات والعهود العالمية، وقبل أن تُوجد العولمة التي تنهش في أخلاق الشعوب وتضعف من سيادة الدول، ويصبح الاندماج مع العالم الجديد أمراً لا بد منه.

وواكبت عُمان كدولة إسلامية ذات حضارة وتاريخ ودولة قانونية لها حضورها وسجلها في المحافل الدولية هذا الواقع بحذر، ووضعت لحقوق الإنسان وللحريات قواعد في المبادئ الموجهة لسياسة الدولة في النظام الأساسي للدولة، وانضمّت سلطنة عُمان إلى عدد من الاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان، منها على سبيل المثال الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 2002م، واتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة 2005م، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة 2008م، واتفاقية حقوق الطفل عام 1996م والبروتوكولين الملحقين 2011م، ومن المؤمل أن تنضم قريباً إلى العهد الدّولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، وذلك بعد مراجعتها وسحب بعض التحفظات منها.

وتأكيداً للمبادئ الموجهة لسياسة الدولة وما تقتضيه المصلحة العامة تم إنشاء اللجنة العمانية لحقوق الإنسان (اللجنة الوطنية سابقا) في 15 نوفمبر 2008م، وباشرت مهامها للفترة الأولى في يناير عام 2010م بعد تشكيلها من أربعة عشر عضوا يمثلون إحدى عشرة جهة حكومية وأهلية، وهي خطوة مهمة بلا شك نحو ترسيخ دولة القانون والمُؤسّسات ووضع عُمان ضمن الدول المدنية المتقدمة.

ويُلاحظ أنّ اختصاصات اللجنة بعد مرور ثمانية أعوام على إنشائها لم تتوسّع بل ظلت كما هي في حدود المتابعة والرصد وتقديم المشورة والاقتراح للحكومة، فهي حسب مرسوم إنشائها تتولى متابعة حماية حقوق الإنسان وحرياتهِ في السلطنة وفقاً للنظام الأساسي للدولة والمواثيق والاتفاقيات الدولية، ورصد ما قد تثيرهُ الحكومات الأجنبيّة والمنظمات الدولية من ملاحظات في مجال حقوق الإنسان في السلطنة والتنسيق مع الجهات المعنية للتحقق منها والرد عليها، ورصد أية مخالفات أو تجاوزات متعلقة بحقوق الإنسان في الدولة والمساعدة في تسويتها وحلها، مع تقديم المشورة للجهات المعنية في الدولة في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته والمساهمة في إعداد التقارير التي تتناول هذه المواضيع، واقتراح خطة سنوية تتضمن التدابير الوطنية اللازمة لنشر ثقافة حقوق الإنسان ورفعها لمجلس الوزراء للاعتماد والتنسيق مع جهات الاختصاص لضمان حسن تنفيذها، والقيام بأية مهام أخرى تكلف بها اللجنة تتعلق باختصاصاتها.

تلك الاختصاصات الحذرة والضيقة وغير الكافية كما يراها البعض، يُشفع لها أنها تأتي في المرحلة الأولى التجريبية لانطلاق عمل اللجنة انسجاماً مع سياسة التدرج مرحلة مرحلة التي انتهجتها القيادة السياسية العمانية في بناء مؤسسات الدولة، والأمل يراودُ الجميع في أن تتوسّع هذه الاختصاصات في المستقبل، سواء من جانب المجتمع المحلي الذي لم يصل بعد إلى حد القناعة بأهميّة قيام اللجنة وأدوارها الإنسانيّة، وهي بالنسبة له لجنة شبه رسميّة تهدفُ إلى تبرير الإجراءات الحكومية والدفاع عنها أمامه، والرّد على الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية وما تثيرهُ من ملاحظاتٍ في مجال حقوق الإنسان في السلطنة، رغم ما بذلتهُ اللجنة الحقوقية من محاولاتٍ لإظهار المصداقية والاقتراب أكثر من حاجات وتطلعات المجتمع، أو سواء من جانب اللجنة نفسها التي تهتمُ أن يكون لها الشخصية الاعتبارية الحقيقية، وتتطلع إلى المزيد من الاستقلال والحرية في ممارسة مهامها، لأنّها تقف في مواجهة الجمهور ولا تستطيع في هذه المساحة المحدودة من الصلاحيات أن تقرر ما تجده مخالفاً لمبادئ حقوق الإنسان وفق المعايير الدولية، خاصة وأنّ سقف الطموح لدى الناس أعلى بكثير من المعايير الدولية لحقوق الإنسان التي غالباً ما تصاغ في حدود الممكن، وأصبح المجتمع واعياً ما فيه الكفاية ومتحفزاً يرصد كل شاردة وواردة للقضايا من حوله، إضافة إلى ما تتعرض له اللجنة من رقابة المجتمع الدولي والمطالب الأممية المتجددة.

ولا تتوفر لهذه اللجنة القوة الجبرية أو الأدوات التنفيذية التي تمكنها من التدخل لتسوية المخالفات والتجاوزات المُتعلقة بحقوق الإنسان في الدولة والمساعدة على حلها، ويقتصر دورها على الرصد والمتابعة وتقديم الاقتراحات وكأنّها إدارة تحريّات وتقصي وجمع معلومات للجهات التنفيذية الأخرى، بل إنّه ليس للجنة حصانة رسمية تحميها من دخول أيّة جهة إلى مكاتبها، إضافة إلى أنّ المخصّصات المالية لهذه اللجنة غير كافية لا تمكنها من المشاركة في الأنشطة المحلية والتمثيل المشرّف لعمان في المحافل العالمية.

مع هذا بذلت اللجنة في الفترتين الماضيتين جهوداً في وضع قواعد التأسيس وقدمت نفسها كمؤسسة حقوقيّة لها شخصيّتها الاعتبارية واستقلالها وتعمل لمصلحة حقوق المواطن والمقيم، من خلال المساعدة في حل بعض المخالفات والتجاوزات المتعلقة بحقوق الإنسان في الدولة، والمشاركة في بعض الفعاليات الوطنية وتقديم الندوات والمحاضرات التعريفية لحث المجتمع العماني على التعاون الإيجابي معها، وجلب الوثائق والكتب العمانية والأجنبية التي تتحدث عن اسهام العمانيين وعنايتهم بقضايا حقوق الإنسان وترجمتها وإعادة طباعتها، إضافة إلى عمل كتيبات ونشرات ساعدت على التعريف باختصاصات اللجنة وأهدافها وإسهاماتها، مع حضور المؤتمرات الدولية المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان.

وبما أنّ الجهات المختصة قامت بتعديل مرسوم إنشاء اللجنة رقم 124/ 2008، فإنني كمراقب كنت أرجو ألا يقف التعديل عند حدود مسمى اللجنة فقط واستبداله من اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان إلى اللجنة العمانية لحقوق الإنسان، الذي هو تعديل أو تغيير لا ينسجم مع التسميات التي تم تداولها في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان 1993م حيث سميت اللجان أو الهيئات أو المفوضيات أو المجالس "بالوطنية" وليس بأسماء الدول تجنباً لتكريس الصفة الرسمية على هذه اللجان المدنية، إضافة إلى أنّ أغلب اللجان المحلية المرتبطة بحقوق الإنسان تُسمى باللجان الوطنية، فهل سيتم تغيير مسمى هذه اللجان أيضاً إلى "العمانية " منها اللجنة الوطنية لشؤون الأسرة عام 2007م واللجنة الوطنية للاتجار بالبشر عام 2008م واللجنة الوطنية لرعاية المعاقين 2008م واللجنة الوطنية لمكافحة تمويل الإرهاب عام 2010م، وغيرها من اللجان الوطنية المتخصصة.

ثم إنّ هناك مسائل أخرى في قانون إنشاء اللجنة أكثر أهمية وأجدر بالتعديل، من ذلك على سبيل المثال موضوع استقلال اللجنة عن تبعيتها لجهة أخرى في الدولة، فقد نص المرسوم في المادة الأولى" تنشأ لجنة لحقوق الإنسان تتبع مجلس الدولة" ثم يسترسل في نفس المادة لينص"وتكون للجنة الشخصية الاعتبارية وتتمتع بالاستقلال في ممارسة مهامها"، ومن ذلك سكوت القانون عن شروط الاختيار للعضوية وعن الأسباب الموجبة لانتهاء العضوية، ومبررات وجود ستة أعضاء من الحكومة لهم حق التصويت في اللجنة الحقوقية، وهو أمر لا يتفق مع المبادئ التي اعتمدها المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فينّا عام 1993م والتي تُعدّ السند القانوني لوجود اللجان الوطنية والاعتراف بأدوارها، ومن ذلك أن يكون رئيس اللجنة عضواً مكرّماً من مجلس الدولة وذا خلفية عسكرية ويكون نائبه من وزارة الخارجية، وأصبحت هذه قناعة مستدامة ليس لها سند من القانون، والأنسب كما أراه هو أن يُترك للأعضاء المُعينين حرية انتخاب رئيس اللجنة ونائب الرئيس من بينهم، ومن ذلك أن يكون الأعضاء الممثلين لمجلس عمان في اللجنة هم من أعضاء المجلسين وهو تفسير غير دقيق لأنّ القانون نص على "عضو من مجلس الدولة وعضو من مجلس الشورى" ولم ينص على عضو من أعضاء مجلس الدولة وعضو من أعضاء مجلس الشورى، وبالتالي يمكن لأي شخص ينتسب للمجلسين سواء كان عضوا في المجلسين أم موظفا في الأمانتين أن يُعيَّن في اللجنة، تماماً كالأعضاء الممثلين للجهات الحكومية حيث لم ينص على مسمّيات وظيفية معينة، ومن ذلك أيضاً تعديل مدة فترة اللجنة من ثلاث سنوات الآن الى أربع سنوات تماشيا مع فترات مجلس عمان والمجلس البلدي.

ما عنيته أن الجهة المعنية بالتعديل كان بإمكانها أن تفعل الكثير في تعديل القانون 124/2008 وليس مجرد استبدال كلمة بكلمة، وإلا فلا ضير من مواصلة الانتطار بعد 37 سنة على إنشاء أول لجنة لحقوق الإنسان في البلاد ولمقتضيات سياسية أمميّة.

أرجو للجنة العمانية لحقوق الإنسان التوفيق في مهامها الصعبة في الداخل والخارج حتى عام 2019م، وأن تكمل ما بدأه السابقون في الفترتين الماضيتين، وتكون الكهف الآمن الذي يلجأ إليه المواطنون والمقيمون بحثاً عن العدالة والحرية والكرامة الإنسانية بعد أن يكون لها شخصيتها واستقلالها الحقيقي.

Sh-almaskry5@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك