حاتم الطائي
يشكل الواقع الراهن للاقتصاد العماني، الناتج عن الانخفاض الحاد في أسعار النفط، فرصة للمراجعة، وإعادة النظر في مُجمل السياسات الاقتصاديّة للتكيف مع شروط الأزمة الحالية.. وقبل ذلك يتطلب الوضع الإجماع الوطني على أن تكون الأولويّة للإصلاح الاقتصادي..
وهو إصلاح أرى أن يكون متكاملا وغير مجزوء، وينطلق من نظرة شموليّة لمختلف القطاعات الأخرى لتنسجم في أدائها مع الرؤية الاقتصادية المستقبلية.. فالتعليم مثلا ينبغي أن يتماهى مع الاحتياجات المستقبلية الآنية والمستقبليّة للاقتصاد من خلال المواءمة مع سوق العمل برفده بالتخصصات المطلوبة، ومدّه بالكوادر الوطنيّة المؤهلة والقادرة على مواجهة التحديات ودفع عجلة النمو الاقتصادي بكفاءة واقتدار.
وما ينطبق على تطوير التعليم والارتقاء بمخرجاته، ينطبق على البيئة التشريعية والقوانين التي يجب تحديثها لتتماشى مع الرؤية الشاملة للاقتصاد..
إنّ الرؤية الاقتصادية المنشودة لابد أن تكون شاملة، وقادرة على الربط بين جودة التعليم وتطوير الاقتصاد، وإعلاء قيم وثقافة العمل وتفعيلها لجذب الاستثمارات، إضافة إلى تبسيط الإجراءات والتراخيص وتقصير الظل الإداري والحد من البيروقراطية والروتين.
ومن أجل تحقيق الرؤية الاقتصادية المستقبلية لابد من تقوية القطاع الخاص العماني ليكون مبادراً ورائداً في تعظيم الفرص الاقتصادية ضمن مفهوم الشراكة في التنمية، ومن هنا وجب خلق البيئة المُحفّزة للأعمال لجذب المزيد من الاستثمارات الوطنيّة والأجنبيّة بما يسهم في خلق فرص عمل جديدة، وتعميق الاقتصاد الوطني ورفع الناتج القومي الإجمالي، وبناء قاعدة اقتصادية متينة ومتنوّعة؛ ومن أهم آليات التنفيذ في هذا الصدد، الخصخصة، وإعطاء المزيد من الحوافز للقطاع الخاص للاستثمار، والتركيز بشكل أكبر على تنمية قيم وثقافة العمل، وإعطائها المزيد من الأهمية لتعزيز ثقافة الإنتاج والتصدير على الاستهلاك.
أمّا القطاع الحكومي، وفي إطار هذه الرؤية، فيلزمه الكثير من التجويد والتركيز على أدوات قياس الإنتاجيّة والمحاسبة على الأطر المعروفة في دولة المؤسسات والقانون، والتركيز بشكل أكبر على الحكومة الإلكترونية لضمان السرعة والشفافية ورفع وتيرة الإنجاز. كما أنّ القطاع الحكومي مطالب بالعمل بشكل أكثر جديّة لتحقيق النمو والازدهار من خلال تسهيل الإجراءات وتذليل الصعوبات ليعمل القطاعان العام والخاص ضمن رؤية واحدة للاقتصاد العماني.
إنّ الإجماع على أن تطوير أداء الاقتصاد يشكل أولوية، يوجب علينا أن نعيد النظر في الكثير من الأدوات في التعامل مع الواقع لكي نستطيع تجاوز سلبيات الأزمة والانطلاق نحو آفاق الفرص الواعدة. وهذا بدوره يستدعي وضع أسس لنموذج اقتصادي متنوع وأكثر قدرة على تحقيق النمو والاستدامة، فنحن نعيش في خضم مرحلة اقتصاديّة جديدة بتحديّاتها المتعددة وشروطها الجديدة، وفي نفس الوقت تزخر بفرصها المتنوّعة، وهذا مدعاة لأن نسرع في بلورة الرؤية الاقتصادية المستقبلية، وخلق إجماع وطني حولها لينخرط الجميع في العمل على تحقيقها من حكومة وقطاع خاص ومجتمع مدني ومواطن واع ومسؤول.
وهنا نؤكد على أهميّة تضافر الجهود، والتنسيق التكاملي لوضع الرؤية موضع التنفيذ من خلال آليات واضحة، وأهداف قابلة للقياس وفق برنامج زمني محدد مع الوضع في الاعتبار بما يحدث في العالم من حولنا من تغيير في ميزان القوى لصالح شرق آسيا، حتى نضمن الاستفادة الاقتصادية القصوى من هذه التغيرات.
ويستتبع اعتماد التطوير الاقتصادي كأولوية، إعطاء القرار الاقتصادي ما يستحق من اهتمام ضمن القرارات الإستراتيجية الكبرى؛ لأنه مؤثر جدا في حياة الناس، ويمكن أن يحدث فرقا ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل في كافة المجالات الأخرى من اجتماعية وصحيّة فالاقتصاد كما يُقال هو عصب الحياة.
وبما إن الحديث عن القرارات الاقتصادية وما يرتبط بها من خطط تنموية، فقد جاءت الخطة الخمسية التاسعة مركزة على القطاعات الخمسة غير النفطية الواعدة وهي: الصناعة والسياحة واللوجستية والتعدين والثروة السمكية، وحسنا فعل واضعو الخطة بوضع هذه القطاعات في دائرة الاهتمام، ولكن حتى تصبح هذه القطاعات فاعلة بحق، ينبغي العمل الآن على تدعيمها وتحفيزها للنمو، وتهيئة العوامل التي تعينها على تحقيق الآمال الكبيرة المعقودة عليها، ومن ذلك مواءمة مخرجات التعليم والتدريب مع احتياجات القطاعات الخمسة لتجد الكفاءات المطلوبة. ومن هنا تأتي أهميّة تطوير التعليم كأولوية اقتصادية للعمل على خلق كفاءات وطنية قادرة على إدارة دفة الاقتصاد في مختلف المواقع؛ وعلى الرغم من الأزمة المالية يجب تخصيص الموازنات اللازمة للارتقاء بالتعليم في مختلف المستويات، وتعزيز البعثات إلى الخارج، والعمل على جذب الاستثمارات في مجال التعليم، ووضع الضوابط اللازمة لذلك، فهناك علاقة وطيدة بين جودة التعليم ومكانة الدولة الاقتصادية على مستوى العالم، باعتبار أنّ التعليم هو المحرك الأساسي للتقدم الحضاري.
كما لابد من توفير البيئة التشريعية لهذه القطاعات الواعدة، وما يستلزمه من إصلاحات قانونية، والأمر الأهم تسهيل التراخيص في هذه المجالات، وتذليل مختلف المعوقات الإجرائية والمالية والإدارية لتتمكن من تحقيق النسب المرجوة منها النمو الاقتصادي.
ويمكن للنظام الضريبي أنّ يعمل على نفس الوتيرة بالتخفيف من الضرائب على هذه القطاعات لتحفيزها وجذب المستثمرين لها.
وبمعنى آخر تحتاج هذه القطاعات إلى منظومة متكاملة وعلى مختلف الأصعدة لدعمها حتى تحقق المأمول منها في الخطة الخمسية التاسعة، وما بعدها من خطط تنموية مستقبلية مقبلة.
إنّ التكاملية والتنسيق والربط الموضوعي بين كافة القطاعات، هو ما نحتاجه فعلا لتجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة؛ بل والانطلاق للتحليق في آفاق المستقبل بجناحي التخطيط السليم والتنفيذ المنهجي المدروس.