السلم الأهلي مخرجًا من حالة الاختناق العربي

عبيدلي العبيدلي

تجتاح المواطن العربي موجة من الذهول، وتسيطر عليه حالة من الإحباط تكاد أن توصله إلى شعور باليأس بسبب المشهد السياسي الذي تهيمن عليه مواقف غريبة من الارتعاش المتراخي التي تواكب الحالة المتقدمة من الاختناق. شيع هذه الحالة من الاختناق حالة الشلل شبه القاتل الذي تسيطر على مسار العمل السياسي العربي العام، والذي تتناسل منه مجموعة أخرى شبيهة على مستوى كل قطر عربي على حدة.

ويمكن تلخيص سمات المشهد العربي العام، وتفاصيله القطرية في الظواهر التالية:

1. السلوك العدمي غير المبالي لما يجري في المنطقة العربية من مجازر تتكرر كل يوم من ليبيا حتى اليمن، ويذهب ضحيتها المئات من المواطنين من مختلف الفئات الاجتماعية والأعمار، دون تمييز بينهم. فالقاتل يبحث عن زيادة قدر المستطاع في عدد ضحاياه، وتوسيع دائرة الدمار الذي يمكن أن يحدثه عبر حزام ناسف، أو سيارة مفخخة. فلم يعد هدف تلك العمليات قوات الطرف المنافس، بل التجمّعات السكانيّة البريئة. تحولت هذه المشاهد النشاز إلى مناظر طبيعية اعتادت عليها عينا المواطن العربي وهو يتابع أخبارها على شاشات الفضائيّات العربية قبل الدولية، أو الاقليمية.

2. حالة الجمود التي وصلت إليها مساعي الحلول التي تبدو وكأنّها تحاول انتشال المتحاربين، أو بالأحرى المتنافسين على السلطة والمتهافتين على كرسي الحكم من حالة التنافر المستمرة التي باتوا خاضعين بوعي كامل لشروطها، والتي تحوّلت إلى مصدر ارتزاق مستمر لهم، حتى انقلبوا إلى ما يشبه الطبقة الاجتماعية المتماسكة التي تقتات على استمرار حالة العدم هذه، وتحرص، انطلاقا من مصالحها الخاصة على استمرارها. وكما كانت الحروب في السابق تولد تجارها، أصبحت مؤتمرات الحوار الوطني اليوم تتناسل المشاركين فيها. أدى ذلك إلى انتقال قيادات العمل السياسي العربي، ولم نعد نقول العمل الوطني، من ساحات الصراع المتأججة، إلى قاعات اجتماعات وغرف سكن فنادق الخمس نجوم الفارهة في أغلى العواصم العالمية مثل جنيف.

3. تناحر الحكومات العربية في حروب تصل إلى المرحلة العبثية البعيدة عن أي مشروع سياسي محدد المعالم، واضح الأهداف. لم تعد تلك الحروب العربية الحالية التي تندلع اليوم صدامات عنيفة متناثرة، ولا بين المواطن وقوى الأمن الداخلي، بل تحولت إلى معارك تستخدم فيها كل أدوات الدمار الشامل، التي لا تغتال الأفراد، بل تدمر المدن، وتمحو أحياءها من فوق الخريطة.

4. تراجع مشروعات التنمية، بما فيها تلك الشكلية التي لا تتجاوز الملفات التي تحفظ فيها، لصالح مخططات التآمر على بعضنا البعض، والإنفاق على شراء الذمم، واقتناء السلاح بمبالغ خيالية أفرغت خزائن الدول العربية، واضطرت البعض منها إلى الاستدانة من دول تقع في خانة الأعداء، بما فيها العدو الصهيوني. هتكت القيم، ونزعت أقنعة الحياء، وما كان يحاك في غرف مغلقة في السابق، تحاشيا لردة فعل شعبية هنا، أو اعتراض هناك، أصبح اليوم مادة علنية دسمة تتداولها برامج الفضائيات العربية، وتشكل مادة خصبة لوسائل التواصل الاجتماعي ليست الشخصية فحسب، وإنما الرسمية أيضا.

5. المجاهرة الوقحة بالاستعانة بالأجنبي لمواجهة الشقيق العربي، سقطت الأقنعة بعد أن تهشمت حدود التقيد بالقيم الوطنية لصالح الدفاع عن المصالح الفئوية الضيقة، التي لم تعد تعرف حدودا لتحالفاتها السياسية والعسكرية، فما بات مهما هو التخلص من الطرف السياسي المنافس، ولم يعد هناك رادع يحدد الوسيلة، أو يضع مقاييس التحالفات. فمعيار الإنجاز أو الفشل هو التغلب على المنافس الذي تم وضعه في فئة الخصم، كي يحل بديلا لخصم انتقل هو إلى خانة الحليف ليس المرحلي، وإنما الاستراتيجي الذي لا يمكن فصل عرى التحالف الذي ينظم أسس العلاقة الجديدة التي بنيت معه.

6. مسارعة القوى الإقليمية بتحالفاتها الدولية إلى تنفيذ مشروعاتها الشرق أوسطية، بما فيها تلك التي تتناقض والمشروعات العربية التي تراجعت لصالح الأولى بسبب الوهن الذي بات ينخر القوى العربية، وخاصة الكبرى منها، مثل مصر والعراق وسوريا، ودول أخرى. بل وصل الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك، حيث نجحت تلك القوى الإقليمية في تجييش القوى العربية لصالح تلك المشروعات، فزجت بها في معارك داخلية طاحنة لخدمة تلك المشاريع. هذا ما تقوم به، كل على حدة، وفي أحيان كثيرة بالتنسيق الثنائي او الثلاثي، تل أبيب، وطهران، وإسطنبول

لم تعد الحالة مقبولة، ولم يعد في الوسع احتمالها، لأنّها منهكة للقوى، ومشتتة للجهود، ونازفة للإمكانات البشرية والاقتصادية. ومن هنا فلم يعد مبررًا للمواطن العربي الوقوف على قارعة الطريق، أو الاستمرار في الجلوس فوق مقاعد المتفرجين.

ولعلّ المدخل الصحي السليم على طريق حل تلك النزاعات، والخروج من تلك الأزمة الطاحنة المثيرة لليأس، هو الاقتناع الراسخ بالحل السلمي لمشاكلنا. والخطوة الأولى الراسخة في هذا الاتجاه هي انتزاع حالة النفي للآخرين من أذهاننا، وتتويجها بسلوك حضاري يكرس قيم الحلول السلمية للمشاكل، والتعايش المشترك مع من نختلف معهم في الرأي، ولا نشاطرهم الفكر.

قد تبدو هذه الدعوة طوباوية، وربما يرى فيها البعض الآخر نداء مثالي، لكن أليس جوهر الديمقراطية، ولب التمثيل الشعبي، وصلب المشاركة الشعبية في السلطة، وصميم تداول السلطة، جميعها تتناسل من القبول بالآخر، والاقتناع الصادق بالحلول السلمية للمشاكل بين مختلف مكونات المجتمع الواحد التي من الطبيعي أن تتنوع قيمها، وتختلف مشارب أفكارها.

ربما تكون هذه الخطوة قصيرة لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة توصل صاحبها إلى هدفه النهائي، طالما كانت الطريق التي ينوي أن يسلكها هي الصحيحة. والعلامات المرشدة على جانبي هذه الطريق هي قيم الحل السلمي، ومفاهيم القبول بالآخر.

تعليق عبر الفيس بوك