تلك النخلة لا تعجبني

مُعاوية الرَّواحي

في كل شيء نخلة، وفي كل نخلة كل شيء. من هناك ينطلق الفهم العُماني القديم الذي تلقيناه في الطفولة. تميل الكائنات المفكرة في عُمان إلى مجازات مختلفة لفهم عُمان، مجازات تأتي غالبا من أنهار أوروبا البعيدة، أو من غابات الأمازون التي لم يزرها من يكتب عنها كما لو كان يعيش فيها.

تدور الأفكار في أفلاكٍ لا ترتبط باللحظة وإنما بالزمن. الحادث الآني ليس مهما إلا بما يؤثر على الخطط الطويلة المدى، من هنا بدأت الأفكار العُمانية تولد في عقولنا وتتوالد وتستقر وتترسخ وتنتقل إلى الذين هم أصغر سنا ووعيا، أو تتفاعل مع الذين وضعوها في عقولنا. يُفهم فلك الفكرة من قدرته على ضم العقول التي حوله، مثل مركزية الأب والأفلاك التي تدور حوله "الأبناء" في العائلة العُمانية التقليدية.

في الفهم العُماني، تلك النخلة التي يزرعها رجل في التسعين، يحمل أدواتَه ذاهبا إلى "المال" وليت شعري أي أمّة عظيمة وصفت نخلتها "بالمال" وقلبت الاستعارة التي يصفها العالم أجمع بالحيوانات، أو بالذهب أو بالمباني!

من هنا، يأتي ذلك الفهم العُماني الأصيل ليغرس بداخلنا لعبة النفس الطويل، وعدم الثقة بتقلبات الحياة، والأهم الانتماء الحقيقي إلى النخلة التي انغرست منذ سنوات طويلة، ووراءها نخلات صغيرات، يبدآن الحياة وينتجن في وقت متأخر، ينتجن، ويؤتمنّ على مصير قادم، وعلى حياة سوف تحمي صاحب المال من غوائل الزمان.

كان هذا سهلا على جيلنا، أقصد الجيل الذي يعيش الآن طريقه النهائي إلى الأربعين عبر جسر عمره أقل من عقد. الجذور قد وضعت وتغلغلت في الأرض، ولم يكن أحدنا من الممكن أن يقول إن تلك النخلة لا تعجبه، لأن النخلة نخلة، منذ أن وضعها غارسها في مكانها بعد دراسة وقرارات زراعية مثل عمق الغرس الأول أو زمن تغطية رأسها، لا يوجد شيء اسمه "تلك النخلة لا تعجبني"؛ لأن هذا يعني عملية معقدة للغاية تغير فيها نخلة راسخة إلى مكان جديد، وكما يقول العلم فإن النباتات تتواصل بشيفرة كيماوية عبر الجذور، تدفع الأشجار المجاورة لإفرازات تساعدها على تجاوز أمراضها أو أمراض التربة بل وأحيانا عامل تدفق المياه، وهنا سندخل في التعقيدات العظيمة التي وضعها رب الكون العظيم.

هذا أقرب تشبيه أجده لما يحدث الآن. هل يمكننا أن نغير مكان النخلة؟ الوطن النخلة أو النخلة الوطن قد شبّ وكبر، وانغرست الجذور عميقة في الأرض وارتفع الجذع شامخا في السماء، هل كان يجب أن يكون على حافة الوادي؟ هذا سؤال الصانع الأوّل وفات أوان إجابته الآن، هل هو آمن من عواصف الزمان؟ هذا سؤال الغد ولا إجابة لأي مخلوق له، هل يمكننا ولو اجتمعنا أن نغير من مكان النخلة؟ سيقول لنا العلم والتاريخ أن هذا "نظريا" ممكن، ولكن هل هناك من يأمن أن تجد العروق طريقها في الأرض الجديدة المفترضة "نظريا" هل يغني الاحتمالي العلمي عن الحتمي التاريخي؟

كلها أسئلة تدور في ذهني عندما أرى الآن حالة النقمة التي تأسر البعض. هل أقول لك أن النقمة ليست شعورا مفيدا أو مستحقا أحيانا؟ نعم هو شعور مستحق، شعور تجاه أغصان النخلة "الفروع" الشوكية، أو الشعور الأهم وهو تجاه الثمار التي قد تكون وقفا مقدسا كما كنا نتعامل مع وقف المسجد ولا نلمس تمرة منه، وهي تلك الصرمات الدانية قطوفها. هل من الممكن تغيير مكان النخلة؟ وهل هذا منطقي؟ بين العلم الاحتمالي والتاريخ الحتمي يقول القلب إجابته.

لقد زرعت النخلة العُمانية وشبّت ولم تشب بعد. جذعها طال واستطال ولم ينحنِ بعد، وبين صيف وصيف تهدي مكنوناتها التي تخرج من ترابها لأيدي الذين فهموها وحموها. هل ستُزرع نخلة جديدة؟ وهل ستكون مكان السابقة؟ أم ستزرع نخلة مجاورة حتى تكبر الأولى لتحل محلها، نخلة بعيدة عن الوادي، وأعمق لتُحمى من غوائلِ العواصف. ومن رحم الأول تولد الثانية.

أتأمل النخلة بعد سنواتها الطويلة، أتأملها بامتنان وفخر وأقول: حسنا فعلت أيتها العظيمة الشامخة. حسنا فعلت، أمام عاصفة وراء أخرى، وحيال واد وراء آخر، تقفين تحت الشمس واضحة وقوية، تمنحين الأمل لكل من خرج من هذا التراب، وتحتفظين بسر الحياة العُمانية بكل أمانة، نحن العابرون أيتها النخلة وأنت الباقية، نحن العابرون، نحن العابرون، نحن العابرون.

تعليق عبر الفيس بوك