مُنزلقات في النقاشات العامة

حسين العبري

من الشائع أثناء النقاش أن يُسارع البعض باتهامك بأنك "حداثي" أو "علماني" أو "عقلاني". يحدث هذا في النقاش وجها لوجه، لكنه يحدث أكثر في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا وأنَّ شخصيات المتناقشين تكون مخفية نوعا ما؛ بحيث يمكن صب الاتهامات وكيلها دون النظر إلى عينيْ المتهَم ودون التحرج من الاجتماعيات الزائفة التي تُعلِي من النفاق أو المهادنة أو الممالأة. وطبعا مفروغٌ منه أن هذه الصفات الثلاث التي ضربتها كأمثلة ما هي إلا عينة بسيطة مما يمكن أن يُنعَت به المناقش، وإلا فإن هناك قائمة طويلة منها كإسلامي أو متزمت أو رجعي أو شيوعي، وهذه الصفات وما قبلها ليست حقا تهماً ومسبات حين النظر إليها من وجوهها الحسنة التي تتدفق بالإيجابيات والمحاسن، وهي إلى ذلك مصطلحات لها أبعادها ووظائفها الأكاديمية. بيد أن المُتَهِم عادة ما يُصدِر كلامه من إطار مرجعي يتكئ عليه في الحكم، أو مقياس ذهني يقيس به الآخر وكلامه.

وعادة ما يتأزم النقاش حينها؛ فلكلٍّ فهمه لهذه المصطلحات وحساسيته إزاء ما تعنيه، والإشكالية هنا لا تكمن في إلقاء مثل هذه الصفات بحد ذاتها، بل في القولبة والتنميط والترفيف، بحيث لا يمكن بعدُ أن يكون النقاش منتجاً أو مفيداً. ففي اللحظة التي يوضع فيها المناقش في خانة معينة لا يصبح النقاش إلا ضربا من استرجاع كل المثالب الممكنة التي يُتهَم بها من يوضع في هذه الخانة أو تلك. ولأننا في مجتمع محافظ كل الشيء، ولا يجيز التفكير المبتعد عن الصندوق، ولم يتعوَّد على أنماط أفكار وتفكير متنوعة، فإنه من المناسب أن نذكر ما يمكن أن يعني وصف إنسان بهذه الصفات، فبدايةً هي مصلطحات ربما يكون أصلها غربياً لا عربياً، وبهذا تدخل المرء مباشرة في اشكال ثنائيات: الشرق والغرب أو نحن وهم أوالأصالة والاستغراب، أو في إشكالية تأريخية المصطلح أو جغرافيته، الذي ربما يكون قد شهد تغيرات في مدلولاته في الحقب التاريخية المتعاقبة أو في رقعات جغرافية مختلفة، وهذا ما يلوي النقاش إلى مسارات متهافتة.

لكن، وبعيداً عن هذه الثنائيات وعودةً للتهم الثلاث، فمن الشائع ما تكون صفة "الحداثة" في العقل الجمعي لدينا لصيقةً بالأدب الماجن المنحل من الأخلاق؛ كون مصطلح الحداثة دخل مجتمعنا أول ما دخل من باب الأدب، أو أدخله أناس رأى فيهم البعض خروجاً عن المألوف الديني والاجتماعي، وربما مالأهم أحيانا في هذا عامل سياسي أخرجهم كذلك عن المألوف السياسي. وعلى كلٍ فإن حداثي في الرؤية الشائعة تترافق عادة مع ماجن أو منحل، دون العودة حقيقة إلى أصلها في سياقاتها المعرفية الذي يعني فيما يعنيه اجتراح أسلوب حديث في رؤية العالم أو الذات، أو محاولة تغيير العالم بأدوات معرفية حديثة نسبياً، ولا حتى بالعودة إلى إطارها العام كمدرسة أدبية أو منهج في الكشف والكتابة والحياة في زمن محدد. بينما تترافق "علماني" مع "ملحد" أو "معاد للدين" أو، في أفضلها، مع "محجم للدين" في الأبعاد الحياتية العامة. أما "عقلاني" فربما تكون أفضل هذه التهم؛ كونها تمتعت بنسق استنباتي جيد في أراضي مجتمعاتنا، ولو باختلاف عما تعنيه في سياقاتها المعرفية والأكاديمية المعاصرة، إضافةً إلى إنها تنتح أصلا من تراث إسلامي، لكنها مع هذا الاستنبات المناسب أو المتساوق مع الحالة العامة فإن "عقلاني" ما تزال تشي بالتأويل المنبت عن الأصل والمتثاقف على النص الديني، وأحيانا الراكض وراء الأهواء.

وطبعا ليست هذه التهم ومثيلاتها مما يُستهجَن لو كنا نتكلم عن أبعاد نظرية تماما بحيث يمكن فيها التنابذ بشتى الألقاب، فما الذي قد يصيب المرء جراء ميله لمذهب نظري معين مبتعداً عن مذهب آخر، فهنا يظل الأمر في التفضيلات والمحاسنات والمقابحات بين الأمور، أو يتعلق بحب سلعة فكرية ما بين سلع أخرى معروضة. بيد أن الأمر يتعدى هذا للمسارعة لاتخاذ أحكام قيمية مُقصِية أو حاجبة أو مُلغِية أو مطالبة بأخذ أقصى حالات الحذر والابتعاد، فضلا على أنها ربما تمتد للعداء العام العلني اجتماعيا وتأليب القانون إزاء المُتهَم.

هنا.. تجب الإشارة إلى أن فعليْ القولبة ومنح القيمة يشرذمان النقاش تماماً بحيث لا يستقيم بعده، بل ويضع إمكانية تولد معرفة أو فهم أشمل من هذا النقاش أمراً مستبعدا؛ ذلك لأنَّ المُناقِش المُتهِم لا يستجمع قواه الفكرية وأدواته المعرفية فحسب، بل يستجمع فتوته المجتمعية وعنفه التقليدي فيما لو كانت التهم ليست مما يعتقنه الغالب من المجتمع؛ إنه يجيّش من خلفه مجتمعا بأكمله يستفز ويتحسس من الخروج ولو بمقياس أنملة عن مساره المأخوذ كـ"حق" أوحد.

وبناءً على ما تقدم، فمن الشائع جدا أن تبدأ نقاشا مع أحدهم لتجد فجأة أن مُحاوِرِك ليس الشخص الذي أمامك فعلاً بل هو المجتمع متمثلاً في شخص المُحاوِر. وهنا طبعا تنتفي الحرية الفكرية الضرورية جدا لتوليد المعرفة الفكرية والعملية؛ فإن سلامة المرء أهم طبعا من "مجرد أفكار نظرية"، كما أشار إلى ذلك يوما بتلطف برتراند رسل. وأياً ما كان الوضع الذي تجد فيه نفسك في نقاش فالأفضل دائما معرفة ما يراد بالمصطلح أو النعت أو التهمة قبل الدفاع عنه أو استحسانه أو التحسس منه أو الدخول في ملصقاته وشوائبه ودلالته. ومن الظريف أحياناً أن تكتشف أنك والمتحاور تهدفان إلى غاية واحدة مشتركة، وعادة ما تكون هذه الغاية الصالح العام أو خير الإنسان والإنسانية، أو مثل هذه الأشياء البسيطة والواضحة والمباشرة، ومن هنا ربما يمكن مد قناطر التفاهم للوصول إلى نقاط مشتركة. مع هذا، لا يجب أن يمنعنا هذا الحل التلفيقي من السعي الدائم للتحرر من ربقة الأطر والأفكار المسبقة التي تفرض قيوداً إضافية على الفرد وتفكيره.

تعليق عبر الفيس بوك