المسؤول القدوة

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (42)

د. صالح الفهدي

أخبرني رئيس إحدى الوحدات بقوله: حينَ عُيِّنتُ في هذا المنصبِ نظرتُ إلى الكرسيِّ الدوّار ووجهتُ له سؤالاً: أيها الكرسيُّ أأنتَ تصنعني أم أنا أصنعك؟! ويضيف: تفكّرتُ في طبيعةِ الكرسي الدوّارةِ والمتحرّكة، أمّا طبيعته الدوّارة فقد علّمتني أنه دارَ بمن كان قبلي من المسؤولين ثم وصل لي وبعد أن أؤدي دورتي فيه طالت أو قصرت سيتوقف عن الدوران. لهذا عاهدتُ نفسي على أن أسابق الزّمن من أجل التطوير والبناء وإقامة المشاريع حتى إن حان دوري خرجتُ راضي الضمير، مرتاح النفس في أنني استثمرتُ مسؤوليتي فيما ينفع المؤسسة التي أؤتمنتُ على قيادتها.

أمّا طبيعته المتحرّكة فقد أوحت لي بأنني لا يمكنُ لي أن أجمدَ فيه ساكناً، ملقياً جسدي عليه دون حراكٍ طوال مدّة عملي فجلوسي الطويل عليه يعني أن الدمَّ لن يتخثر في أوردتي وحسب بل وفي أوردة المؤسسة بكاملها، لهذا شرعتُ في إعدادِ الصفِّ الثاني للقادةِ لأنهم سيخلفونني في منصبي هذا، كما كنت أقضي سحابة نهاري في حراكٍ مستمرٍ لا يني من أجلِ أن يتحفّز الموظفون في عملهم، وأن يقتدوا بمسؤولهم الذي لا تهدأ نفسه، ولا يخبو أُوارُ أفكاره.

المسؤول القدوةُ هو ما تحتاجهُ أوطاننا من أجلِ البناءِ والتقدّم والإزدهار، فالأوطانُ تُبنى بالكفاءاتِ المخلصةِ، والقياداتِ الصالحةِ، والقدراتِ الفذّة، لهذا لم يكن غريباً على سلطان البلادِ أن يربط نجاح التجارب الإنسانية بالمسؤوليةِ مرةً، ثم يربطُ العملَ الجادَ بالمسؤولية مرّةً أُخرى حين أكّدَ جلالته حفظه الله ورعاه في افتتاحه الفترة الثالثة لمجلس عمان (أن نجاح التجارب الإنسانية هو نتاجُ سعيٍ متواصل وعزمٍ وإرادة وشعور بالمسؤولية ولا يمكن لأمة من الأمم أن تدرك غايتها إذا لم تعمل يدا واحدة من أجل بناء مستقبلها وتنمية قدراتها وإمكاناتها. ونحن واثقون تمام الثقة من أنكم جميعا رجالا ونساء سوف تسهمون في نمو هذه التجربة العمانية وترسيخ جذورها وإعلاء بنيانها من خلال العمل الجاد المتّسم بالمسؤولية والحكمة والذي لا يراد به إلا رفعة الوطن وخدمة المواطنين).

إنّ المسؤول الذي يسابقُ الزّمن من أجلِ إعداد المشاريع الطموحة لتطوير مؤسسته، يناقضُ ذلك الذي يسابقُ الزّمن من أجلِ استغلال وظيفته، وانتهازِ مسؤولياته، والإفسادِ في مؤسسته، لأنّ النجاح الحقيقي في قرارتهِ هو استحلابه "للبقرةِ الحلوب" التي هي مواردُ الشعبِ المؤتمنِ عليها، والمنوطةِ على كاهله، وليس تحقيق إنجازٍ وطني يخدمُ الأجيال المتلاحقة..!! وهو نموذج للمسؤول الذي يرفعُ عقيرته في كلّ مجلسٍ ومحفلٍ بالمصلحةِ العامة ثم تجدهُ وقد استغلَّ وظيفتهُ من الانتفاعِ الشخصي منها بمشاريعَ وأموال لا طائلَ لها..!!

لقد أوضح جلالته معنى أن يكون المسؤول قدوة منذُ بواكيرَ سنواتِ عهدهِ في لقائه التاريخي بالمسؤولين عام 1978 موصياً بكلماتٍ مضيئة: "إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن ‏تكون نفوذاً وسلطة، عليكم جميعاً أن تكونوا قدوة ومثلاً يحتذى، سواء في الولاء لوطنه أو ‏المواظبة على عمله واحترام مواعيده أو في سلوكه الوظيفي داخل مكان العمل أو خارجه، وفي ‏حسن الأداء وكفايته. إنّ العدل أبو الوظيفة وحارسها فتمسَّكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه وإنني ‏لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني، فلن يكون في مجتمعنا مكان لمنحرف أو ‏متقاعس عن أداء واجبه او معطل لأدائه، كما يكون لكل مجتهد نصيب في المكافأة والتقدير ‏والعرفان بالجميل".‏

هذه النصائحَ أحرى أن تكون دستور مسؤولية، أو قسَم ولاء، لكي يعيها كلّ من تناطُ على ضميرهِ المسؤولية الوطنية، لا أن تزخرفَ بها جدران الوزارات والهيئات وتبقى مجرّدةً في أحرفها دون أن تلامس الواقع المعاش في شخصياتِ المسؤولين..! يقول الفيلسوف الألمانيAlbert"Schweitzer " "لا تعتبر القدوة أهم عنصر من عناصر التأثير على الآخرين، بل هي العنصر الوحيد." ويقول "القدوة قيادة". ولا يمكنُ قيادة أيّة أمّةٍ، أو تولي أيّة مسؤولية ناجحاً دون أن يكون القائدُ والمسؤول قدوةً يُتأسّى بها، لهذا كان منطلق الرسالة المحمدية في الشخصية القدوة من أجل ضمانِ نجاحها "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"(الأحزاب/21).

أخبرني مسؤولٌ بدرجةِ مديرٍ عام أنّه أراد الاستئذان لأداءِ واجبٍ من الواجباتِ الإجتماعيّة فملأ استمارة الاستئذان ومضى بها إلى رئيس وحدته الذي تعجّبَ من تصرّفهِ هذا قائلاً له أنّ بإمكانك الاستئذان دون استمارة بحكم منصبك الوظيفي الرفيع، فردّ عليه: أرجوك أن توقّع استمارة الإذن ثم أُخبركَ عن السبب لاحقاً. بعد توقيع الاستمارةِ قال المديرُ العام لرئيسه: لقد أردتُ أن تمرَّ هذه الاستمارة على كلِّ قسم من الأقسام المعنيةِ ليعي الجميع بأنّ مسؤولهم هو قدوةٌ لهم حتى في استئذانه فالجميع سواسية تحت طائلةِ القانون المعمولِ به وليسوا هم وحدهم وهذا ما حدث، ثم أنشدَني القصيدة التي مطلعها "يا أيها الرجل المعلم غيره..إلخ".

إن أعظم ما يتسبب به المسؤول الذي لا يعدُّ قدوةً حسنةً لموظفيه هو ضياعُ الثقةِ ليس من قبلهم فحسبَ بل ومن قبل المواطنين الذين يعمّمون الصفة لتطالَ غيرهِ من المسؤولين القدوات، وهذا أخطرُ ما في الأمر..!

ضياع الثقةِ بسبب إنسانٍ حَمِّلَ مسؤوليةً وطنيةً فأضاعها انتهازاً واستغلالاً وإساءةً للوظيفة يتسبب في نخرِ أساسِ الدولةِ التي أودعتهُ أمانةَ بناءها، والحفاظِ على منجزاتها، وصيانة مقدّراتها، واستثمار مواردها، وتوجيه كفاءاتها، ورعاية مصالحها. فالثقة أساسُ الدولة حيث ورد في قصّةٍ أنّه حواراً جرى بين الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) وتلميذه (هو تسي كوج) حول العناصر الثلاثة التي يجب أن توفرها السياسة للدولة وهي: لقمة العيش لكل فرد، والقدر الكافي من التجهيزات العسكرية، والقدر الكافي من ثقة الناس في حكامهم. فسأل التلميذ: وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد الثلاثة فبأيها تضحي؟ فيرد الأستاذ: بالتجهيزات العسكرية. ويعود تسي كوج فيسأل: وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما تضحي؟ فيجيب الأستاذ: في هذه الحالة نستغني عن القوت لأن الموت كان دائماً مصير الناس ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة". لهذا نسمع كثيراً عبارة "إسقاط الثقة عن الحكومة" في البرلمانات لأنه لم تعد موضع ثقة الشعب.

في حديثٍ لي مع أحد الرؤساء التنفيذيين لإحدى الشركات الرائدة حولَ موضوع القدوة قلتُ له: إن قيمَ الرئيس هي التي تشيعُ في المؤسسةِ إيجاباً أو سلباً، فإن جاء بقيم أصيلةٍ، عظيمة كان أثرها إيجابياً على نفوس الموظفين، وأجواء العمل في البيئة العملية، وإن جاء بقيمٍ عقيمةٍ أشاعَ الامتعاضَ في أنفس الموظفين، وأفسد أجواء العمل، فالقائدُ هو محرّك التغيير ومحفّز الهمم على العطاءات السخيّة للأفراد الذين يقودهم.

تُبنى الأوطان بالمسؤولين القدوات أولئك الذين لا يرفعون المصلحة الوطنية والعامة شعاراً خاوياً من المعاني الواقعية بل إنّهم يمارسونها واقعاً يتطابقُ مع أقوالهم، ويتماثل مع قناعاتهم ظاهرةً وباطنة، أمّا أولئكَ الذين لا يشكّلون قدوةً مستقيمةً فلا يجبُ أن يكون لهم موطئ قدمٍ في أيّة وظيفة عليا لأنّهم لم يتجرّدوا من الأنانيات لخدمةِ أنفسهم، وتحقيق مصالحهم، وهذا مناقضٌ لنصيحةِ جلالته في المناسبة السالفة الذِكر "وهناك أمرٌ هام على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، ألا وهو أنهم جميعاً خدمٌ لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجرَّدوا من جميع الأنانيات وأن تكون مصلحة الأمة قبل أية مصلحة شخصية"..

فهل يعي كلّ مسؤولٍ أن عليهِ أن يكون قدوةً حسنةً ليس من أجلِ نفسه وحسب بل ومن أجلِ اللهِ والوطنِ والتاريخ؟!

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك