وألقى جسده على كُرسيّه.. فأعاب!

هلالبن سالم الزيدي*

تتزايد حمى المنافسة على عروش الكراسي في كل بقعة ممتدة في وطننا العربي المريض، فتتساقط الجثث وتحترق القيم تحت رغبة إنسانية منهكة بحب التسلط والتربع على عروش القيادة بشتى أنواعها وأشكالها.. فتُشن الحروب وتنتشر روائح البارود في كل مكان يحمل هوية وفائدة لأطماع بني البشر، فتتعطل لُغة الكلام البشري، ليكون أزيز الرصاص وصوت المدافع اللغة السائدة.. هنا تتجلى الرغبات تحت ستار إنقاذ البشر بتقديم تضحيات من نفس الجنس.. ليعيش الآخرون على أنقاض من لا يملكون حولا ولا قوة.. وهنا كذلك تنجرف الوحدة إلى شتات لا يعرف له هوية ولا وطن.. بينما تتجلى لي تلك المشاهد مع صباح يودّع لياليَ شتوية، وينذر بصيف حارق إذ يأتيني صوت المذيع الرخيم علي أسعد عبر إذاعة الـ بي بي سي في نشرة الأخبار بثقة وسكينة تُدلل بأنّه لا زال هناك من يُعلمنا كيف نستمع ونستمتع بالمعلومة في مجمل اتجاهاتها.. وبناء على أنّ الشيء بالشيء يذكر فقد تحدث ذلك العملاق ذات مرة قائلا:" لقد خرجت من الأردن محصنا بلاغيًا وعروضيًا ونحوًا وصرفًا، لأنّهم في الإعلام كانوا لا يجاملون ويحملون عصا سيبويه لمن يزل لسانه".. لذلك فإنّ ذلك الصوت يجعلني متسمرًا جسدًا وسمعًا لكل حرف يقوله ويبثه في الفضاء الواسع.. لذا كان الرابط الفكري والحسي يدور في فلك الكرسي الذي أهلك الحرث والنسل وشتت القوى من أجل الظفر به.. هنا كان الخبر الذي تلاه "علي أسعد" يتحدث عن بيع كرسي خشبي يحمل دلالات فكريّة بين ممن يُقدّرون معناه.. هذا الكرسي جعلني أمام مقارنة غريبة بعض الشيء وخاصة في ظل الظروف التي تمر بها الكثير من المؤسسات والتي تنتهج منهج التصويت والترشح للظفر بالكرسي.

الخبر يشير إلى أنّه تم بيع كرسي خشبي متواضع استخدمته الكاتبة البريطانية جاي كاي رولينغ عند كتابتها أول روايتين من سلسلة "هاري بوتر" الناجحة بسعر 394 ألف دولار في مزاد بنيويورك، وقد كتبت رولينغ حول مقعد هذا الكرسي المصنوع من خشب السنديان عام 1930، "وأنا جالسة على هذا الكرسي".. هنا تتقاطع لديّ لغة الكراسي وما تعنيه عند مختلف العقول، فهناك عقول أرادت أن تقتني كرسيّا تحمّل الخيال الواسع للكاتبة والحياة التي عاشها بوتر في مدرسة السحرة، فعمق ذلك الإلهام الذي أنتج سلسلة من الروايات لم يكن الفكر الذي أبحرت من خلاله الكاتبة، وإنما الكرسي الذي يحتاج إلى رواية منفصلة بذاتها، ومدى تعامل من استطاع شراءه بهذا المبلغ.. فلربما سيضعه في قالب زجاجي يمنع الاقتراب منه أو لمسه كونه يمثل قيمة أدبية وفكرية.. فهنا الكرسي مختلف عن تلك الكراسي التي تتحرك وتكون متداولة بين الناس بحسب "كرسي الحلاق" الذي لا يفرق بين وزير وغفير أو غني وفقير، فجميعهم يجلسون عليه وينتهي دورهم بعد حلق شعرهم الزائد.. مع بقاء شعورهم الداخلي نحو التملك منسدلا في كل الاتجاهات.

شتان بين الكراسي.. وبين المغزى الذي يمثله كل كرسي.. فهناك من يدفع من أجل الصعود على الكرسي ويدفع من يقترب منه إلى هاوية النهاية.. وهناك من يدفع ليقتني الكرسي من أجل دعم أصحاب العقول للسعي نحو إبداعاتهم.. وهنا تختلف كذلك المقاصد والنوايا التي تُغلّف بالأحقية في الاعتلاء على كرسي "ما"، ففي المثال الأول يضع الساعي خلف الكرسي نفسه الوصي الأنسب للصعود للعمل على مصالح الناس، مع حرصه الشديد على إبعاد الآخرين ووصفهم بأنهم أناس لا يمتلكون ما يمتلكه من حنكة ودراية.. لذلك يكيل إليهم التهم حتى يضعهم في قوائم "الخونة" الذين لا يحفظون الأسرار.. كما أن هناك أطرافا أخرى تستخدم الأساليب الملتوية إذا داهمها خطر تجريدها من كرسيها، فتعيث ضربا في القيم وتدّعي بأنّ الآخرين أساءوا للكرسي ويجب أن يرحلوا لأنّهم لا يحسنون إليه صنعا.. لذلك يقع الناخبون بين مطرقة الوصي وسندان المُصلح، لتذوب احتياجاتهم بين تلك الصراعات وتندثر الأولويات والأهداف التي على ضوئها يتجلى ذلك المنصب.

ما أصعب الحياة عندما تتحطم الأخوّة بين قوائم "الكرسي" فلا صوت يعلو هنا إلا صرير الكرسي من هول ما يحدث عليه، فلا هو يتحمل ثقل المقاصد التي تحملها تلك الأجساد المثخنة بالنرجسية.. ولا هم يفهمون لغة الكراسي أو لعبة "الكراسي" فعندما يلقي ذلك الكيان جسده عليه تتقاطع كل خطوط التماس المكونة للوطن والوحدة.. لأنّه جنة يحقق منها مقاصده أو ربما كيانا يمارس عبره إنسانيته.. والله يعلم ما تخفيه الصدور.. وهنا أتذكر جيدا ذلك المسؤول عندما كان يتحدث عن المنصب بأنه تكليف لا تشريف وعليّ أن أضعه على رأسي.. ولا أدّعي بأني أجلس عليه.. فبينما كان يكيل المدح في ذاته.. تدحرج الكرسي وهوى به فكاد أن يرتطم بالأرض لولا الجدار الذي أسنده وأعاده إلى الأمام.. فتهشم وجه وتجرع مرارة قصده، لأنّ الكرسي لم يستطع تحمّل هذيانه وكذبه.. وإنما هو من ألقى جسده على كرسيّه فأعاب.

همسة:

لأنّكِ تعتلين الكرسي .. ولأنّكِ من يحق لكِ أن تتربعي عليه.. لذا فلا تكترثين لهم، وإنّما عليك بمن خرّ راكعا وأناب.. لأنّه أصدق النية.. ولم يتزلّف حتى بلغ مبلغه وذهب.. وإنما حمله على رأسه لتكون تاجًا له.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك