الكتابة بيدين حرَّتين (2)

أسماء القطيبيَّة

قبل عدَّة أشهر، وفي الطريق من مسقط إلى صحار، كنتُ أستمع مع أخي إلى تسجيل صوتي لقصيدة أمل دنقل "لا تصالح"، وبعد انتهاء التسجيل تمتم أخي باستغراب: لا تبدو كقصيدة كتبتها امرأة، المفردات في القصيدة ليست مفردات تكتبها (النساء). أثارت هذه الملاحظة الثاقبة دهشتي بشكل كبير؛ فأمل دنقل رجل وليس امرأة كما يُوحي الاسم، وهذا ما جعل أخي -بعد أن صحَّحت له المعلومة- يتباهى بأنه يستطيع بسهولة اكتشاف جنس الشاعر بمجرد قراءة أو سماع القصيدة. ولكن كيف أقبل تصنيف الشعر على هذا الأساس، أنا التي لطالما اعتبرت أن مصطلح "الأدب النسوي" مصطلحا عنصريا يُراد به تحديد إبداع المرأة، ووضعه في خانة ضيقة قابلة للتهميش؟ فكرت أن نظرتي المتسرعة تجاه "الأدب النسوي" تحتاج مني إلى إعادة نظر، أو إلى تحديد أدق للمعنى. فتعريفه بأنه الأدب الذي يصف معاناة المرأة، وينتصر لحقوقها هو حصر لا ينبغي القبول به؛ فالأدب النسوي هو الذي يحمل روح المرأه مهما كان الموضوع الذي تتناوله، تلك الروح التي تحمل عاطفة وحساسية خاصة تنعكس على النصوص، والتي أستطيع ملاحظتها بوضوح عند وصف المرأة "الكاتبة والشاعرة والقاصة" للأماكن مثلا، فهي غالبا لا تصف المكان كما يفعل الرجال الأدباء، بل تصف تأثير هذا المكان عليها، أو العواطف التي يثيرها المكان في داخلها. وهذا لا يعني بأي حال أن وصف الرجل أفضل من المرأة أو العكس؛ فالأمر منوط بقدرتهما على جذب القارئ. ولكل قاعدة استثناء.

وفي الإجابة عن سؤال: من أين يأتي الكاتب -أيًّا كان جنسه- بمادته؟ يقول حسن مدن في كتاب "الكتابة بحبر أسود": "يغرف الكاتب مادته من الحياة، من الأمور العادية جدا والمألوفة جدا، لكنه لا يكتب عن الحياة، لا يكررها، لا ينسخها..."، وهذا الإجابة تحيلني إلى رسالة كتبها عبدالله حبيب إلى أحد أصدقائه يتحدث فيها عن "اليومي" الذي يستمد منه الشاعر قصائده؛ حيث يقول فيما معناه أن الأحداث اليومية المعاشة بحاجه إلى وقت كافي لتتخمر في ذاكرة الشاعر، وإلى إضافات من خياله ولا وعيه حتى يكتسب النص جماليته. "وبذلك لا يعود "يومياً" بالزعم السنتيمتري للكلمة". إذن فكلا الكاتبين يتفقان على أن الكتابة -كونها عمل إبداعي- هي الحياة الواقعية، كما يراها الكاتب، مغلفة باللغة والخيال، تغليفا لا بد منه لإتاحة الفرصة للقارئ لاكتشاف ما وراء الكلمات، وتعديد الاحتمالات؛ فالنص المباشر الواضح غالبا لا يستحوذ على إعجاب القارئ. كما أنه ليس بالضرورة أن يكون الكاتب قوي التركيز، دقيق الملاحظة بل يكفي أن يكون مرهفَ الحس، متذوقا للجمال حتى يقدم نصا مؤثرا.

ومن الأسئلة التي تستحضرني وأنا أقرأ الكتب هو ما رأي الكاتب بما يكتب بعد أن يخرج النص من يديه إلى القراء؟ الراوي مثلا هل يفكر في إضافة حدث ما؟ أو الشاعر -بينما يلقي قصيدته أمام الجماهير- هل يود لو استبدل كلمة بأخرى؟ أم أن النص بمجرد أن ينشر يصبح ملكا للناس وبالتالي فالكاتب يتعامل معه كقارئ، أو قل إن العلاقة بينهما لا تصبح بتلك الحميمية التي كانت يوم أن كان النص عجينا يشكله الكاتب كيفما أراد. هذا السؤال عن علاقة الكاتب بمادته يهمني لأن الكاتب في تطور مستمر سواء من ناحية اللغة أو الأفكار؛ وبالتالي فالكاتب الذي بدأ بنشر أعماله منذ كان في العشرين مثلا، هل يندم على الاستعجال في النشر عندما تنضج تجربته بعد عشر أو عشرين سنه؟ أم أنه يدرك أن ما كتبه كان مرحلة لابد منها، وأن القراء دوما هم الحَكم الذي يقرر صلاح النص من عدمه. الأمر يبدو معقدا، خاصة وأنَّ كثيرا من الكتاب يرددون دائما بأنهم غير راضين بشكل كامل عن نصوصهم، ولا أدري هنا هل هو تواضع الكاتب في حضرة الإبداع اللامحدود؟ أم هي عبارة ظاهرها التواضع، وباطنها النرجسية التي تلمح إلى مواهب خفية لدى الكاتب لم يحن وقت إظهارها بعد؟

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك