التعايش السلمي يفتح الطريق

عبيدلي العبيدلي

يسود القنوط الذي يكاد يقترب من حالة اليأس تفكيرَ المواطن العربي، الذي بات لا يسمع في محطات الإذاعة، ولا يرى في الفضائيات العربية والأجنبية، سوى تدهور الأوضاع في المنطقة العربية. والأسوأ من ذلك أن موجة اليأس هذه بدأت تتسرب وبشكل شبه منظم إلى دوائر صنع القرار، ليس في صفوف القوى المعارضة، بل وحتى في أوساط تلك الحاكمة.

يروِّج لهذه الحالة أربعة مشاهد فرعية تتكامل فيما بينها قبل أن تصل إلى اجماعها على تردي الأوضاع العربية وعلى أكثر من صعيد.

فعلى المستوى السياسي، هناك حروب طاحنة: البعض منها علني سافر، والآخر متستر، بين الدول العربية في أكثر من ساحة صراع، وعلى أكثر من مشروع سياسي. هذا الصراع لم يعد، كما كانت عليه الحال في الستينيات من القرن الماضي عندما كانت دولة ما "تتآمر" على أخرى من أجل إسقاط نظامها أو إرغامها على التوقف عن معارضة مشروع لها في نطاق سياسي محدد، بل تجاوز الأمر ذلك فبتنا نشاهد تحالفات عربية علنية، لم تعد خجولة كالسابق، مع دول منافسة من مستوى إيران، ومعادية مثل الكيان الصهيوني يستعين فيها طرف عربي ضد طرف عربي آخر، وحول مشروع بعيد كل البعد عن المصالح القومية الكبرى. المصيبة في هذا النطاق السياسي أن المواطن العادي لا يرى أي ضوء في آخر النفق يبشر بتوقف هذه الصراعات السياسية، الأمر الذي يشيع حالة القنوط التي نتحدث عنها.

ولم تعد الاختلافات محصورة في الإطار السياسي، بل تجاوزته، كي تصل إلى صدامات مسلحة تشارك فيها جيوش عربية ضد جيوش عربية أخرى، تستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة من أجل قلب موازين القوى لصالح هذا الطرف أو ذاك. الكارثة هنا أنَّ أيًّا من طرفي النزاع لا يملك مشروعا قوميا شاملا يبرر تلك الحروب التي وصلت إلى حالة شبه عبثية. المشهد يتكرر هنا، إذ لا تلوح في الأفق بادرة وقف لهذه الحروب الطاحنة، يمكنها أن تقتلع حالة الإحباط التي باتت تسيطر على ذهنية المواطن العربي وسلوكه السياسي.

يزداد الأمر سوءا عندما نصل إلى الحالة الاقتصادية، فمع التهاوي في أسعار النفط، بدأ المواطن العربي يخشى من عودة إلى الحقبة التي سبقت الطفرة في أسعار النفط، ومن ثم يقع في حالة نفسية سوداوية تستعاد فيها ذكريات المجتمعات العربية في حقبة العقود النفطية المجحفة التي فرضتها مرحلة ما قبل التحرر من الاستعمار. تتضاعف هذه النظرة السوداوية قتامة عندما تربط مع بعض القوانين التي رفعت الدعم عن بعض السلع والخدمات، وبات المواطن يتوجس من قوانين قادمة تثقل كاهله، وهذه بدورها عززت من موجة الإحباط بالحاضر والتشاؤم من المستقبل القادم.

تتفاعل هذه العوامل جميعها كي تأخذ مسارها نحو النسيج الاجتماعي العربي الذي بات -هو الآخر- مهددا بالتمزق وعلى أكثر من صعيد، ليس المذهبي سوى الأكثرها بروزا. وبات جيل شباب الستينيات ممن حمل مشعل المشروعات القومية العملاقة الكبرى، بغض النظر عن مثالياتها أو نرجسيتاها، يتخلى عن تلك المشروعات أمام موجات المشروعات المذهبية أو الإثنية القزمة الصغرى. وبدأت الذاكرة العربية تستعيد مواد اتفاقيات التقسيم القديمة، وفي المقدمة منها اتفاقية سايس-بيكو سيئة الذكر. بل رأينا البعض يقارن بين تأسيس الكيان الصهيوني، وتشكيل كيانات مشابهة على غراره، وإن تم ذلك تحت صور مختلفة، وتبريرات مغايرة. هذا التشظي هو الآخر يبعث في النفس العربية موجة عارمة من التشاؤم والخوف من انشطارات عربية داخلية تذهب بما تبقى من آمال بناء صرح مشروع عربي.

ويذهب البعض إلى دائرة أكثر اتساعا فيضيف الواقع التعليمي، ويقارن بشكل نسبي بين العرب وسواهم من الأمم الأخرى ممن تنتمي إلى بلاد لعالم الثالث، بما فيها تلك التي كانت تئن تحت براثن الاستعمار مثل الهند وماليزيا، كي يجد تقدم تلك البلدان مقابل تراجع السياسات والبرامج التعليمية في الدول العربية، بما فيها دول مثل مصر والعراق وسوريا. ويتحسر المواطن العربي، ويبكي على أطلال المؤسسات التعليمية التي تراجعت في مستوياتها، بما فيها تلك التي تعنى بالتربية الدينية، ومن أبرزها الأزهر الشريف، الذي كان يوما ما، ولم يعد اليوم، نموذجا تربويا متقدما مقارنة مع مؤسسات تعليمية عريقة في بلدان أوروبية مثل جامعتي كيمبريدج، وأكسفورد في بريطانيا.

لا أحد في وسعه إنكار أن الحالة العربية ليست في أفضل مراحلها، وأن توصيفها الشكلي الخارجي غير مخطئ، لكن زمن التحولات التاريخية في عمر الشعوب لا يُقاس بالسنوات ولا حتى بالعقود، كما أنها لا تسير في خط زمني مستقيم صاعد لا يعرف الالتواء أو التراجع. بل إنَّ عملية التراجع هي ظاهرة طبيعية تسبق أي مشروع نهضوي ينتشل الأمم من حالاتها الشبيهة في كثير من أوجهها من الحالة لعربية، إلى تلك المتقدمة التي يحلم بها كل مواطن غيور على مصالح أمته ومستقبلها.

وعليه.. فهذه الحالة التي يُمكن توصيفها بالسيئة، هي مرحلة لا يمكن إنكارها، إلا أنها مرحلة آنية، ولا يمكن لها بمنطق التاريخ أن تستمر بشكل سرمدي. لكن كي تأخذ الأمور مجراها التطوري الذي ينتشل الأمة من الهاوية التي تتربص بها، لا بد من توافر ثلاثة عناصر رئيسة:

- أولها: أنَّ هذه الحالة ليست طبيعية وليست مقبولة، ومن ثم ليس هناك مناص من العمل على تغييرها.

- ثانيها: أنَّ الخروج منها لا ينبغي -بل ربما من الخطأ القاتل- أن يتم من خلال الاستعانة بالأجنبي.

- ثالثها وهو الأهم: أنَّ الطريق ليست مسدودة، وأن الأمر بحاجة إلى إرادة مشفوعة بالعمل الدؤوب المتواصل القادر على انتشال الأمة العربية من حالتها الراهنة التي لا تسر العدو قبل الصديق، وأول خطوة على هذه الطريق التي من الطبيعي أن تكون وعرة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر، هو قبول كل طرف أو فئة أو مذهب بالتعايش مع الآخر، والقناعة التامة بأن هذا القبول إستراتيجي ونابع من قناعة لا تقبل المساءلة.

تعليق عبر الفيس بوك