الضمان الاجتماعي.. بين الدواعي الإنسانية واستغلال السخاء الحكومي

د. صالح بن هاشل المسكري

تبذل حكومة السلطنة ممثلة في وزارة التنمية الاجتماعية جهودا كبيرة في رعاية أفراد وأسر الضمان الاجتماعي والإشراف على أحوالهم وتطور معيشتهم، وتقدم الوزارة تسهيلات وخدمات كثيرة لأفراد وأسر هذه الحالات ليست محصورة في الدعم المادي فقط إنّما بتقديم أنواع أخرى متعددة من الرعاية الاجتماعية كالإعفاء من الرسوم الإدارية للدولة؛ بدءا بالإعفاء من رسوم بطاقة العلاج في المراكز الصحيّة الحكومية ورسوم استخراج الوثائق الرسميّة والشرعيّة ورسوم التقاضي والمحاماة بالمحاكم بمختلف درجاتها، وانتهاءً بالإعفاء من رسوم استقدام العامل أو العاملة والسائق الخاص لذوي الإعاقة وكبار السن، والإعفاء من رسوم منح الأراضي السكنية ورسوم استخراج سند الملكيّة والرهن للممتلكات العقاريّة، ورسوم البلدية لإباحة البناء مع تخصيص 22 ألف قطعة أرض سكنية وتجارية لأسر الضمان الاجتماعي و1500 بعثة دراسية سنويّة لأبنائهم الذين لم تؤهلهم نسبة نجاحهم في الحصول على مقعد دراسي بالجامعة والكليات والمعاهد الحكومية، إضافة إلى مكرمات سنوية لأداء فريضة الحج 200 حاج بمبلغ 800 ريال لكل حاج، وثلاثة آلاف ريال لأفراد أسر الضمان كقرض بدون فوائد وبأقساط ميسرة جداً لإدارة مشاريع تجارية خاصة بل إن مظلة الرعاية الاجتماعية غطت حتى الزوجة غير العمانية التي يصرف لها ولأبنائها تذاكر سفر لغرض زيارة أهلها مرة كل ثلاث سنوات في الظروف العادية وفي أي وقت في الظروف الطارئة، وخدمات وإعفاءات أخرى كثيرة لتوفير الراحة والاستقرار والأمن الاجتماعي لهم وهي رعاية مستحقة بكل تأكيد.. ولكن!!

هل أمام ما يشهده العالم عامة وبلادنا العزيزة عمان بوجه خاص، من تطورات اقتصادية وتعليمية وتشريعية وانفتاح عالمي واسع من المناسب الاستمرار في تقديم الدعم والمساعدات والخدمات وضخ ملايين الريالات لهذه الشريحة من المجتمع دون أن يكون هناك مصدر متجدد يرفد هذا الصرف ويجنب الضغط على الموازنة العامة للدولة.. وإلى متى؟ وهل مواصلة تقديم الثمار جاهزة لهذه الحالات ودون عناء أفضل من تعليمهم الفلاحة والصناعة والتجارة ليعتمدوا على أنفسهم مستقبلاً؟ وهل يحسب للحكومة أنّها تمكنت لأكثر من أربعة عقود من تقديم هذه الحزمة الواسعة من الخدمات والمساعدات والإعفاءات لشريحة واسعة من المجتمع مدعومة بالمكرمات السلطانيّة وإدارتها والإشراف عليها وإن كان هناك من يرى أنّ هذه الخدمات تأتي على حساب الحقوق العامة لبقيّة المواطنين، لأنّ ما يقدم لهذه الشريحة من إعفاءات وخدمات إنما هو نزف من المال العام، أم يحسب على الحكومة أنّها لم تتمكن ولا أقول أنّها فشلت في خلق بدائل ومصادر أخرى دائمة تحقق الاكتفاء الذاتي والاستقرار المادي والمعنوي لكافة المواطنين وليس فقط أصحاب الضمان وذوي الدخل المحدود بعيداً عن عكاز الحكومة الذي يتعلق عليه الجميع وأصبح مثقلاً بالأعباء الكثيرة ولا يحتمل، خاصة إذا ما نظرنا إلى الزيادة الكبيرة لهذه الفئة في السنوات الأخيرة ونموها المضطرد الذي يزيد عن 7% سنويا وتزيد معه الأعباء المالية بنسبة 19%، في حين أنّ النمو السكاني للمواطنين لا يتجاوز2:7% فقط، ولماذا طوال هذه السنين لم تؤسس الوزارة على سبيل المثال صندوقا للضمان الاجتماعي شبيها بصناديق التقاعد أو صناديق الاستثمار أو الدعم كصندوق رفد ليمارس نشاطا استثمارياً في البلاد تكون مصادره أموال الزكاة وتبرعات القطاع الخاص وأهل الخير، إضافة إلى الدعم الحكومي، أو إقامة مشاريع عقاريّة وتجاريّة كبيرة يستفيد منها المجتمع ويعود ريعها لهذه الفئة.

وهناك من يرى أنّ فئات الضمان الاجتماعي ومعها فئات الدخل المحدود أثْرت على حساب بقيّة أبناء الوطن خاصة طبقات المجتمع الأخرى التي لا تبتعد كثيرًا في الرفاهية والحياة الكريمة عن فئات الضمان الاجتماعي ولديها مشاكلها الصعبة المالية والاجتماعيّة وإن بدت على السطح أنّها تعيش حياة كريمة، وأصبحت هذه الطبقات تتمنى أن تنال نصيباً ولو يسيراً من مظلة الضمان الاجتماعي، وأنّ هذه الحزمة الواسعة من المكرمات والخدمات والإعفاءات أوجدت لدى منتسبي الضمان ثقافة الاتكال على الحكومة والكسل والنوم على مخدة الضمان الاجتماعي المريحة وقتلت فيهم روح الطموح وأصبحوا يتسابقون في تقديم الأسباب الموجبة وغير الموجبة للانضمام لنادي الضمان الاجتماعي مع تحريك "فيتامين واو" أو الواسطة من فلان وعلان لبلوغ الآمال المنشودة والاستفادة من قائمة المكرمات والإعفاءات والخدمات المغرية، وهذه مشكلة أخرى تعيق التنمية وتثبط همم أجيال الشباب وعلى المساجد والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني بذل الجهد الكافي لتوعية الناس من أجل التخلص منها أو التخفيف من آثارها.

تلك صورة من صور الضمان الاجتماعي وهي سلبية وإن بدت حقاً مكتسبة في نظر البعض، بل هي مؤشر سلبي لا يمنح الحكومة ولا المجتمع شهادة النجاح بتقدير عال إنما يمنحهما درجات متدنية من النجاح والتقدير لأنّهما عجزا معًا عن تطوير الإنسان العماني ورفع مستوى حياته الكريمة وأصبحت هذه الحالات تتوسع وتشكل ضغطًا على ميزانية الدولة إذا ما أضفنا إليها حالات ذوي الدخل المحدود الذين يقل دخلهم الشهري عن 400 ريال عماني وقد تجاوزا معًا مئات الآلاف من المواطنين من إجمالي السكان العمانيين الذي لا يتجاوز تعدادهم مليونين ونصف المليون مواطن، في غياب تحديد واضح لخط الفقر في البلاد.

الصورة الأخرى من صور الضمان الاجتماعي في البلاد "وربما نطلقها هنا تندراً" هي صورة من يحظون برعاية خاصة واهتمام رفيع من علية القوم وذوي المناصب العليا في البلاد هذه الصورة ابتدعها أصحاب القرار لأنفسهم بأنفسهم؛ لأنهم يملكون الرأي ويمسكون بالقلم "والذي بيده القلم لا يكتب نفسه شقيا" كما يقولون ليضمنوا لهم وللأجيال القادمة من أبنائهم التفوق والتميز والحياة الباهظة.

التعيين في المناصب العليا دون معايير واضحة يتنافس عليها المتنافسون، وصرف مبالغ لتحسين أوضاع المعينين مع توفير مخصصات وخدمات وهبات وعطايا ما أنزل الله بها من سلطان من أجل تحويلهم من مواطنين عاديين بالكاد يغطون قوت شهرهم إلى مواطنين من الصنف الممتاز قلوبهم معلقة فيما كلفوا به وعقولهم مشتغلة بالتفكير في ضمان المستقبل الشخصي خارج أسوار التكليف، مع بقائهم في المناصب عشرين وثلاثين عامًا رغم المستجدات وتبدل الظروف؛ هي حالة من حالات الضمان لهذه الفئة.

وإنشاء الشركات الحكوميّة وشبه الحكومية واختيار عدد من الموظفين العموميين أعضاء في مجالس إداراتها ومن ثمّ صرف المخصصات والبدلات والمكافآت الضخمة لهم هي حالة ضمان أخرى لهذه الفئة ولا بأس من أن يتكرر وجود العضو في أكثر من مجلس إدارة شركة عامة لمزيد من الضمان الاجتماعي لهذا العضو النادر.

وصرف آلاف بل ملايين الأمتار من أراضي الوطن في بعض الحالات من خلال صفقات ومقابلات خاصة لفئة معينة من "المستحقين" وصرف تراخيص محطات البترول التي يفتقر بعضها لشروط الأمن والسلامة هي مجرد ضمان لمستقبل فئة مستحقة من أبناء الوطن الأوفياء المخلصين.

وتقديم الخدمات المجانيّة العائليّة والعلاجيّة والتعليميّة المكلفة خارج مؤسسات الدولة ومنح التسهيلات المصرفيّة للمغامرات التجارية المختلفة هي أيضاً ضمان لرفاهيّة فئة معينة مستحقة من المواطنين، إضافة إلى حالات أخرى كثيرة من تصرّفات الضمان الخاصة التي تتسابق عليها هذه الفئات وتخطها بيدها من أجل جني أرباح النهضة لمصالحها والانفراد بخيرات الوطن الذي دائماً ما يأتي على حساب عامة الشعب وبالالتفاف على اللوائح والقوانين.

فئة الضمان هذه واسعة يمكن أن تستوعب بعضا من تشرف بمنصب أو من له حيلة يحتال بها أو لديه علاقات خاصة جداً مع من يملك القرار وبيده الأختام والأقلام، وكلما أضيف إليها عضو تقول هل من مزيد، ومع أنّهم أخذوا من ثمار النهضة كل ما يتمنون، إلا أن البعض منهم يستنكف للأسف عن دفع ما ألزم به شرعاً من فريضة الزكاة لإخوته المعدمين والمعسرين وهو بالمناسبة مبلغ زهيد جداً لا يجاوز 2.5% من إجمالي المال المدخر وبعد أن يحول عليه حولا كامل، وتاريخنا الإسلامي شاهد على أنّ الزكاة وحدها كانت كافية لرد حاجات المجتمع بل كانت تفيض عن الحاجة وتطعم منها البهائم والطيور.

صورة الضمان الاجتماعي الإنساني السابق ذكرها وصورة الضمان الأخرى تحتاجان إلى وقفة وطنية جادة، ومراجعة دقيقة، فالأولى تتوسع وتتنوع وتحتاج إلى بدائل أخرى للحد من نموها ونظام آخر للصرف عليها، والثانية ترهق الدولة كثيراً وتستنزفها وتقدم المصالح الخاصة الدنيا على المصلحة العامة العليا، وهي مفرّخة للطبقيّات الاجتماعية وللإحباطات والاحتقانات الشعبية، صحيح أنّ الظروف المالية الأخيرة أجبرت الحكومة على التقشف والأخذ بأسباب ترشيد النفقات والمصروفات إلّا أنّ هذه الصورة للأسف أصبحت ثقافة ولها جذور عميقة في الإدارة العليا لعقود من السنين، وقد تعود مرة أخرى إذا ما تحسنت الظروف المالية في المستقبل إن لم تواجه بقوانين وإجراءات صارمة تجابهها وتَحد من آثارها في المستقبل؛ فاللوائح والأوامر الإدارية التي بيد المسؤول لا تكفي وحدها للحل.

Sh-almaskry5@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك