سلاح الإعلام

زاهر المحروقي

سلاح الإعلام سلاحٌ قويٌّ يحتاج إلى عقول ماهرة تستطيع أن تستخدمه بجدارة، فبإمكانه أن يرفع أمة ويخفض أخرى، وهو سلاح مهم في تشكيل وتوجيه الرأي العام. وعن طريق وسائل الإعلام، استطاعت الدول المتقدمة أن تسيطر على شعوبها، وتأتي أمريكا في مقدمة هذه الدول بما تملكه من قوة إعلامية جبارة تمثلت في القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والأفلام، إضافة إلى وسائل الاتصال التكنولوجية الحديثة، عن طريق أسلوب طرح ذكي، بعيداً عن التوجيه المباشر مثلما يحدث في الأوطان العربية، ممّا أعطى نتائج عكسية، حيث فقد بعض الجمهور العربي الثقة في تلك الوسائل؛ في حين أنّ الأمريكيين يثقون تماماً في رؤسائهم وحكوماتهم أكثر ممّا يجب، ويقبلون ما يقال لهم دون شك أو تمحيص، وهو ما يسهل مهمة الدولة في حكمهم. وباستطاعة وسائل الإعلام الأمريكية أن تغيِّر مسار الرأي العام من اتجاه إلى آخر بمجهود بسيط، ومهما قدّمت الحكومة من أكاذيب حول السياسات الأمريكية خاصةً في الشرق الأوسط فإنّ الشعب الأمريكي سيصدق ذلك، وإذا حدث وأن خرج الأمريكيّ من وطنه وعاش في دولة من دول المنطقة مثلاً فإنّ من الصعوبة تغيير قناعاته، رغم كلِّ الحقائق التي تُقدّم عن الفظائع الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وعن الجرائم الأمريكية ضد العراقيين. وقد جرى نقاش بين عماني وأمريكي عن الأكاذيب الأمريكية للشعب الأمريكي، إلا أنّ الأخير لم يقتنع، رغم أنه عاش في عُمان فترة من الزمن؛ إذ قال: "ما هي مصلحتهم في أن يكذبوا علينا..؟!".

والمفكر جلال أمين يشرح فكرة سيطرة الإعلام على الأمريكيين، بأنه في أول رحلة قام بها إلى أمريكا، قرأ مقالاً لناعوم تشومسكي، حمل عنواناً يلخص مضمونه، وهو "حدود التفكير المسموح به"، وأنه كان يرى يومياً ما يؤكد أنّ هناك مثل هذه الحدود التي لا يُسمح بتخطيها ليس فقط في الفعل والكلام، بل وفي مجرد التفكير؛ وكان الانطباع الذي خرج به من تلك الرحلة أنه لم يتحمس لما يسمى بالديمقراطية الأمريكية، فقد وجد فيها الكثير من الزيف والادعاء؛ إذ أقل أنواع النظم حرية وديمقراطية هي تلك التي يظن فيها الناس أنهم أحرار ويتمتعون باستقلال الرأي والفكر دون أن يكونوا في الحقيقة كذلك.

ما يقوله جلال أمين عن الشعب الأمريكي، قد لا يختلف عن الشعوب العربية إلا بمقدار بسيط من التفاوت؛ فنحن نجد أنّ هناك دولاً سيطرت على الإعلام الفضائي والأرضي والمُشاهَد والمسموع والمقروء، وأنقفت مليارات على شراء الإعلاميين، ولم تسمح بكلمة نقد واحدة لسياساتها في أقاصي الدنيا، فما بالك في الداخل، ونتج عن هذا نجاحُ هذه الحكومات في تشكيل وعي الإنسان مثلما وكيفما تريد؛ فتحوّل الباطل إلى حق وتحوّل الخطأ إلى صواب، فأصبح الإنسان مشوّهاً يشكِّله الإعلام كما يريد، ويحدد له متى عليه أن يفرح ومتى عليه أن يحزن ولماذا يفرح ولماذا يحزن، ولمن يفرح ويحزن، وماذا عليه أن يقرأ وبماذا عليه أن يفكر، فكانت النتيجة أن غابت قيمة عقل الإنسان وانتشر الفساد في كلِّ المناحي، لأنّ تأثير هذه الوسائل كان تأثيراً قوياً، لدرجة أن يلغي التفكير من الإنسان، فتأثر حتى حملة الشهادات العليا بالدعاية الإعلامية، وأصبح معظم الشيوخ والكتاب والإعلاميين والأكاديميين مجرد أبواق لسياسات حكوماتهم، حتى وإن كان فيها من الخطأ ما فيها.

كان يمكن أن يتم استغلال وسائل الإعلام لتوجيه الناس إلى التنمية وإلى الإنتاج والاهتمام بالعمل والصناعة والزراعة، وإلى الاهتمام بالعِلم وبناء الأخلاق، ولكن الإعلام العربي كان بعيداً عن كلِّ ذلك، إذ كان همه هو تكريس سلطة أنظمة الحكم، وكذلك تشكيل الرأي العام لتوجهات الحكومات العربية، خاصة الدول النفطية التي أصبحت تملك -حسب مصطلح عبد الباري عطوان- "إمبراطوريات إعلامية جبارة"، دون أن تحقق إنجازات علمية وأدبية تذكر.

... إنَّ تدمير الشباب العربي المسلم، هو رسالة الإعلام العربي -كما يبدو الآن- ففضاءُ الوطن العربي مليء بفضائيات تافهة تقدم الإباحية في أسوأ صورها، ومليءٌ أيضاً بقنوات الفتنة الطائفية التي تدَّعي كلٌ منها الانتماء الى الإسلام الحق، فتنسب لنفسها أنها تمثل الفرقة الناجية والإسلام الصحيح، فيما هي تبث بذور الكراهية، حتى انتشرت في الوطن العربي جماعات إرهابية، ترفع علم "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وتقتل باسم الله، ولا يمكن أبداً لمتابع نزيه إلا أن يصل إلى قناعة بأنّ هذه القنوات لا تنفِّذ إلا أجندات خارجية، أو أنّ القائمين عليها أغبياء، وفي كلِّ الأحوال فإنّ الأمر مصيبة. وينظر الكاتب عدنان الصالحي في مقاله "الإعلام المضلل وطرق مواجهته" إلى وسائل الإعلام العربية، خاصة الفضائيات بنظرة تشاؤمية؛ فيرى أنّ الحوار مع إدارات هذه الفضائيات ومؤسسيها هو حوار عقيمٌ، لأنهم يعلمون ماذا يعملون، ويقدمون على هذا السلوك ولهم أهدافهم ومناهجهم الفكرية ومعتقداتهم التكفيرية، والقضية ليست خطأ في التفكير أو عن سوء فهم؛ بل في سبق إصرار.

وبعيداً عن القنوات الإباحية والفن الهابط وقنوات الفتنة، فقد ظهرت في فضاء الوطن العربي قنواتٌ ادعت المصداقية وطرح الرأي والرأي المخالف، وإن كانت هذه القنوات قد استطاعت أن تخدع بعض الناس بعض الوقت إلا أنّ حقيقتها قد انكشفت أمام الناس، فلم يعد خافياً أنّ هذه الوسائل ساهمت في الهجوم الغربي الذي استهدف بعض الدول العربية، وظهر ذلك جليًّا من خلال تغطيتها للأحداث وللأوضاع في سوريا وليبيا ومصر واليمن، ففي بعض القضايا اختفى شعار "الرأي والرأي الآخر" ليظهر رأيٌ واحد فقط، وليس عيباً أن يكون لأيِّ قناة توجهها، فهذا شيء منطقي جداً بل هو طبيعي، ولكن العيب أن تدعي القناة شيئاً وتمارس شيئاً آخر، وهذا ما شاهدناه في كلِّ القنوات الفضائية التي ادعت المصداقية.

أمام وجود بدائل كثيرة الآن عن الإعلام العربي، هل يمكن أن تستمر خديعة هذه الوسائل؟ وهل سيستمر إنفاق المال لوسائل إعلام كهذه؟ إنَّ الحق مصيره أن يظهر، ومن يسعى للوصول إلى الحقيقة -إن كان جاداً في ذلك- فإنه سيصل إليها، والمقولةُ التي قالها الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن "يمكن أن تخدع كلَّ الناس بعض الوقت، وبعض الناس كلَّ الوقت، لكنك لن تستطيع خداع كلَّ الناس كلَّ الوقت"، هي مقولة صحيحة، والصحيح أيضاً أنّ هناك من العرب من انخدع كلَّ الوقت، بفضل "الإمبراطورية الإعلامية الضخمة" وبفضل "البترودولار"، إلا أنّ كثيراً من المنخدعين قد كشفوا الحقيقة، وعددُهم في ازدياد يوماً بعد يوم، ويعود ذلك بسبب انكشاف التضليل والتحريض اللذين اعتمدتهما بعض قنوات الإعلام العربي في تغطيتها للكثير من الأحداث، ومع ذلك فإنّ هذه القنوات مستمرة في أساليبها لما تتمتع به من مال وما حققته من سمعة في بداية انطلاقها، ومن لم يسع إلى البحث عن الحقيقة ورضي أن يكون من "الدهماء" الذين يؤمنون بأنّ كلّ ما يأتي في هذه الوسائل هو حق، فلا ينبغي الالتفات إليه، لأنّ فتح أيّ نقاش معه إنما هو من باب تضييع الوقت.

تعليق عبر الفيس بوك