أمي "جرادة"

عائشة البلوشيَّة

ذهبت إلى بيتها وأنا أقدم خطوة وأؤخر عَشْرًا، واجب تأدية العزاء يدفعني إليها دفعا، وإحساسي بفقدها الجسيم يجعلني أتراجع، فأي نوع من المواساة يمكنني أن أقوله لها. دلفت المركبة إلى حارة حسن في بلدة العراقي، ووصلت إلى باب البيت المشرع كقلبها، ورفعت بصري وإذا بي أراها تجلس متهالكة على كرسي في صدر الدار وقد هدها الحزن هدا، فاستجمعت شجاعتي ودخلت من المدخل الرئيسي ﻷصل إليها، وهي تحاول التحقق من الشخصية المقبلة عليها، وما إنَّ رأتني مقبلة حاولت النهوض وأمسكت بها، فتكومت بين يدي وألقت برأسها المثقل بصروف الزمان على كتفي وبدأت في نشيج مكتوم يشق الصدر وهي تهتز كورقة الخريف، تحاول جاهدة أنْ لا يخرج صوت غصتها لمن حولها، ولكن هيهات فهذه المرأة الحنونة نعرفها كبصمات أصابعنا، ورأيت في الزاوية أرملة ابنها تقبع متدثرة بالصبر واللوعة، أحسست لحظتها بوقع الألم على السيدة التي ترتجف بين يدي لوعة، وترجمت دموع ساخنة تلك المحاولات اليائسة التي حاولتها حتى لا أبكي، فاختلطت كلمات المواساة بالعبرات المكبوتة.

... إنَّ أصعبَ أنواع الفقد هو فقد الأم لفلذة كبدها، لذلك كان أجر صبرها عظيما، ولنا العبرة الأمثل في أم سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلولا أن ربط الله على قلبها لافتضح أمرها، رغم أن فراقها لابنها لم يكن بالموت، ولكنه فراق فلذة الكبد، عرفنا هذه المرأة العظيمة "جرادة" في طفولتنا رمز للحنو والاهتمام بنا؛ فقد مات زوجها -رحمه الله- وترك لها خمس بُنيات وولدا واحدا، بلا معيل بعد الله، فآلت على نفسها أن تمد يدها، وأصرت على تربية وتعليم أطفالها، رغم قسوة العيش في تلك الفترة، وﻷن المجتمع لا يجد في عمل المرأة عيبا، فقد وفقت أمي جرادة للعمل بمدرسة ذات النطاقين، فاقتربنا منها وأصبحت هي وأمي سلمى بمثابة أمهات لنا بين جدران المدرسة، ولمن يستغرب من الاسم "جرادة"، أوضح هنا بأنهم في السابق كانوا يخسرون الكثير من الأبناء بسبب الأمراض وتعسر الولادات، فيموت للأسرة الواحدة أكثر من طفل، ولجهلهم وعدم توافر المستشفيات والأدوية، كانوا يعتقدون أن الأطفال يقضون ضحية للعين أو السحر، وحين يولد لهم ابنا أو بنتا مكتمل الخلقة صحيح البنية وتكتب له الحياة يطلق عليه اسم غريب درءا للعين، ويكون الاسم من الطبيعة المحيطة، فتجد مثلا في محافظة الظاهرة أسماء مثل جرادة وفراشة، وذلك يشد الاسم انتباه السامع فلا ينتبه للخلقة.

محمد (أبو الخير) كلنا ناديناه بهذا اللقب، ﻷن قلبه لا يحمل إلا الخير، فقد ربته والدته على قول الخير واحترام الجميع، ولم يحدث أن سمعنا أبدا أن أحدا اشتكى من أبو الخير أو إخوته، بل كانوا حمائم خير وسلام بين المجتمع، ولم تأفف أمي جرادة من مهنتها البسيطة، بل كانت هي المعين لها لتعيل أسرتها وتصل بناتها إلى النجاح والتفوق، ووصلوا جميعا إلى مناصب ممتازة في الوظائف والمهن التي اتخذوها سببا للرزق، تراوحت وظائفهم من ربة بيت إلى رئيس قسم، ومنهم من تخرج من بين يديه الأجيال، وهم يردون لها الجميل بالأجمل، ومرت السنون ونحن نعلم أن أبا الخير بدأ يعاني من الكلى، والتي تأثرت بسبب إصابته بمرض السكري في بداية حياته، وكان متمسكا بالحياة ولا تفارق الابتسامة محياه، مخفيا ألمه ووجعه وأنينه قدر الإمكان، ولكن الموت كان هو النهاية الوحيدة لوحش الآلام التي تنهش جسده، وكانت شربة ماء احتساها قبل أن تفيض روحه إلى بارئها بين جنبات غرفة العلاج في المستشفى؛ رحمه الله وغفر له.

وفي كل مجتمع، نجد أنموذجا أو أكثر لنسوة تفانين لتربية أبنائهن، وضربن أروع الأمثلة لمعنى التربية وإعداد الأبناء، لم يتحجَّجن بذريعة أن عمل المرأة عيبا، ولم يتخذن من الكسل خدرا يحتجبن خلفه، بل انطلقن برحابة صدر، ونشأ في بيوتهن أبناء صالحين لوطنهم وأمتهم.

وخلاصة القول أنَّ الكلية هذا العضو الحيوي الصغير القابع في أجسادنا شديد الحساسية، وسريع العطب إذا لم يتم التعامل معه بحذر واهتمام، ورغم عدم التفاتنا إلى أسلوب حياتنا اليومي، وعدم إدراك الكثيرين منا لدور هذا العضو الذي لا يمكن يستعيد الإنسان النسبة التي يخسرها من عمله، وكم المعاناة من شدة ألم من ابتلاه الله تعالى بغسيل الكلى، وطول ليله، إلا أننا لا نتعلم ونستمر في الروتين اليومي من بذل للجهد وعدم تعويض الجسم بالكمية المناسبة من الماء خاصة في مناخنا الحار؛ تنتشر أمراض الكلى في المجتمع الخليجي بشكل عام والعماني على وجه الخصوص، بدرجات متفاوتة، ومهما بلغت درجة الإصابة من بسيطة إلى بالغة فإنها تقض مضجع الكثيرين، وتؤثر على الاقتصاد بشكل مباشر، خصوصا إذا ما دققنا في الفئات العمرية التي أصبحت تعاني من أمراض الكلى المختلفة ومسبباتها، لذا فإن للثقافة الشخصية وللتوعية الإعلامية دورا كبيرًا، ليدرأ الفرد منا عن نفسه مضاعفات كثيرة هو في غنى عنها.

-------------------------------

توقيع: "أحسن الله عزاء كل أم فقدت فلذة كبدها، وربط على قلبها وجمعها بأحبابها في الفردوس الأعلى".

تعليق عبر الفيس بوك