هكذا تصرف رسول الله الكريم

زينب الغريبية

تطور التكنولوجيا في السنوات الأخيرة وما قادت إليه من تطورات في شبكات التواصل الاجتماعي، جعلت للناس فرصًا أكبر للتحاور والتشاور وتداول المعرفة؛ فيبدأ الناس يومهم بتغريدة أو عبارة قد تصل إلى عشرات الآلاف داخل البلد وخارجها، كما يصحون على عشرات القضايا المطروحة للنقاش، حيث تتباين فيها الآراء بين الجدية والسخرية والتجريح، وكأننا أمام حوارات إلا أنّها ليست حوارات مبنية على أسس وقواعد وقيم، وتتم التعبئة الافتراضية لبعض القضايا نتيجة تماسها مع حياة الناس أو حقوقهم أو احتياجاتهم، وويل لمن يخطئ في كلمة في تفاعله على هذه الشبكات، سوف لن يطاله الكثير من النقد فحسب، بل سيحصد عشرات الكلمات الجارحة التي تعبر عن إشكالية ثقافية وأخلاقية ندير بها حواراتنا؛ فالأمر لا يقتصر على شبكات التواصل فقط، فهو يمتد إلى الحوارات في الندوات والمحاضرات التي شاهدت فيها بنفسي تجاوزا كبيرا في الحوار أيضا، وكأننا لابد أن نظهر أنفسنا بأننا "فظون" في مناقشاتنا؛ على اعتبار أنّ هذا الأسلوب سوف يقوّي من آرائنا، ويضعف من رأي الطرف الآخر، وكأننا لابد أن نحرج الآخرين، ونحفر لهم حفرًا ليقعوا فيها، وبعد ذلك نسخر منهم، وكأننا لا بد أن "نصرخ" حتى نثبت أنّ صوتنا مسموع ناسين أن ما يسمع هو مضمون "الكلام" وليس الناقل الذي ينقل الصوت، هل يمكن في ظل هذا الواقع أن يَسمعَ أحدٌ أحدًا، أو أن يَحترِم أحد أحداً، أو أن يُقنِع أحد أحدا، أو أن يستمر تواصل بنّاء بين طرفين، هل يمكن أن تبنى ثقة، أو أن تقدم نماذج حوارية، ويزداد الأمر خطورة إن كان كل ما يجري في أوساط أفراد متعلمين يفترض أنهم تدربوا على بعض قيم الحوار وأساسياته؛ لأننا ننتمي إلى هوية ثقافية فيها كثير من التشديد على قيم الحوار، وفيها مخزون كبير من النماذج والأمثلة التي يمكن أن نتعلم منها، لماذا نحيد شيئا فشيئا عن النهج الذي يفترض أن نتشبث به.

تابعت خلال هذه الأيام بعضاً من الأمثلة السلبية للحوارات، ووجدت نفسي أعود في تأملاتي إلى سيرة الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يقدم دروسًا خالدة ليس لأصحابه الذين كانوا في تلك المواقف حوله، ولكن لجميع المسلمين فيما بعد، والذين مطالبون باتباع سنته، والمضي على نهجه، فما معنى أن يكون الإنسان مسلما وهو لا ينطلق من قيم هذا الدين في تعاملاته وعلاقاته مع الآخرين، فكل شيء له أسس وقواعد، ولابد أن ندركها ونطبقها لأنّ بها الخير الذي يحافظ على وحدتنا، ويقوي الثقة بيننا، ويذيب الخلافات ويساعدنا على حل الإشكاليّات الكبيرة والصغيرة، وعلينا أن نتعالى فوق الصغائر، ونتجاوز عن الزلات، ونلتمس الأعذار، وننقي السرائر، ونطفئ الشر بالخير، والخطأ بالصواب، هنا استحضرت موقفًا واحدًا من المواقف الكثيرة التي قدم فيها الرسول عليه الصلاة والسلام نموذجًا راقيا في الحوار المبني على الاحترام وامتصاص الغضب، حيث يروى أنّ أعرابي دخل على رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو جالس بين أصحابه، فأمسك بتلابيبه وهزه وقال له: "أعطني من مال الله الذي أعطاك لا من مال أبيك"، وحين أغضب مثل هذا الكلام الصحابة همّوا بتأديب هذا الرجل الذي خاطب رسولهم الكريم بهذا الأسلوب، لكنّ الرسول عليه الصلاة والسلام أوقفهم وأعطى الرجل حتى رضي، وأمام هذا الأسلوب الراقي المتواضع لم يملك الأعرابي إلا أن قال: "أحسنت وجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا"، فرد عليه الصلاة والسلام :"إنّ أصحابي وجدوا عليك، فأخرج إليهم وقل لهم ما قلت لي الآن".

لقد كانت حوارات الرسول مع المؤمنين أو غيرهم، مع المؤيدن أو المعارضين تلتزم بقيم الرحمة واللين والرفق ولم يكن عليه الصلاة والسلام يغلظ على أحد، أو يقلل من شأن أحد مهما صغر سنه بين الناس، فالكل يستحق أن يعطى حقه من الأهميّة، إلى أي مدى تلتزم حوارات وتفاعلات اليوم بهذه القيم؟ إجابة هذا السؤال واضحة وماثلة يوميًا لا يُخطئ المتأمل فيما يجري، كيف يمكن أن يتصرف إنسان اليوم لو تعرض لما تعرض له الرسول من قبل ذلك الأعرابي؟ هل سيذهب معه إلى حوار يمتص به أسباب مشكلة كبيرة، أم أنّه سيواجهه بالعنف والغلظة ويخلق مشكلة أكبر. إن الناس اليوم بحاجة كبيرة إلى الكلمة الطيبة التي لعلها تذيب كل هذه الحساسيات والحواجز التي يعيشها المجتمع ومؤسساته، وتعيق تنميته وتقدمه، وتعطل طاقاته، وتعبئ طاقة الناس بالشر بدلا من تعبئتها بالخير، والبناء الهادف، والتعاون على ما هو خير.. لا أقول إن ضعف أدوات الحوار تختص بها فئة دون أخرى، أو مستوى فكري دون آخر، فالأمر أصبح ظاهرة، ويزيد منها الفوقيّة التي يظهرها البعض تجاه مواقف أو استفسارات من أناس مستوياتهم التعليمية أو المعيشية أو الوظيفية متدنية، مما خلق هذه المساحات والفراغات الكبيرة التي تتحرك فيها مشاعر سلبية، وتكبر؛ مما يصعب معالجتها أو التغلب عليها.

إنّها دعوة لنا أن نقتطع جزءًا من وقتنا للتأمل في آداب وقيم الحوارات النبوية، التي أكدت على أهميّة انتقاء الألفاظ، والاستماع للطرف الآخر، وسعة الصدر، وتقبل الحالة النفسيّة للطرف الآخر، وعدم إحراج الطرف الآخر أمام الناس، وعدم السخرية نتيجة الأخطاء غير المقصودة، وعدم إظهار المعرفة دون علم، وإظهار الحب للطرف الآخر، وعدم الجدل، والصبر على جفاء الآخرين، والمدح دون مبالغة، والقوة في الحق، هل يمكن أن تكون هذه القيم منطلقا لتغيير نهج الحوار الذي يدور حاليًا والذي يحمل لومًا كبيرًا، وجدلا خارجا عن الأطر، وسخرية مستمرة، والخوض في كل أمر دون معرفة، ومديح مبالغ فيه، إنّها لحظة لابد أن نسأل فيها أنفسنا كيف كان رسولنا الأعظم يحاور الآخرين؟ وأن نقتدي به فعلا لا قولاً.

تعليق عبر الفيس بوك