الكتابة بيدين حرَّتين (1)

أسماء القطيبيَّة

"الكتابة بحبر أسود".. عنوان الإصدار الأخير للكاتب حسن مدن، والذي كنت من المحظوظين الذين تمكنوا من الحصول على نسختهم منه قبل أن ينفد من معرض الكتاب بمسقط. في هذا الكتاب المثري يأخذ حسن مدن بيد القارئ ليطلعه على كواليس الكتابة، وعن صعوبة تكوين الجملة الأولى التي يستهل بها الكاتب نصوصه، وعن المسودات التي "يخربشها" الكاتب، ومصير هذه المسودات، ومزاج الكتاب والأدباء وطقوسهم، مستشهدا بكم كبير من تجارب الكتاب وأقوالهم وانجازاتهم الفكرية والأدبية. وهو إذ يقسم الكتاب إلى أربع أقسام هي: عن الكتابة، عن الكاتب، عن الكتب، وأخيرا عن القراءة. فإن القارئ ينتقل بسلاسة بين هذه الموضوعات المترابطة وكأنه في رحلة لسبر أغوار عالم الكتابة والتعرف على الكُتاب خارج نصوصهم.

يتأمَّل حسن مدن في كتابه العلاقة بين الكتابة والإبداع عموما، وبين الظروف الصعبة التي يعيشها المبدعون، كالطفولة البائسة المتمثلة في التفكك الأسري والتمييز العنصري والعرقي، والأمراض المستعصية التي ألمَّت بعدد كبير منهم، والنهايات المأساوية لبعضهم كالموت في المنفى أو الانتحار؛ حيث إنَّ الكتابة لدى هؤلاء كانت طريقة للشفاء، أو للصمود أطول فترة ممكنه في وجه الحياة. ولكون أرواحهم المتألمه قد عجنتها التجارب فقد أثمرت روايات مدهشة وقصائد عذبه خالدة تتناقلها الأجيال وتستشهد بها في المواقف التي تكرر نفسها في التاريخ. وبالطبع هذا لا يعني بالمقابل أن فرص الإبداع لدى اولئك الذين ولدوا في ظروف عادية هي الأقل، فمثلا إميل سيوران الذي كان يقول انه يشعر بالغيظ لأنه ولد في أسرة مُحبة، أخرج لنا من جعبته أكثر الكتب سوداوية وصدقا كـ"المياة كلها بلون الغرق" و"تاريخ و يوتيوبيا". كما أنَّ الأمر لدى الكاتب مُتعلق بالإحساس بالمواقف والأحداث، أكثر مما هو متعلق بالتجارب نفسها، بمعنى أن ما قد يراه البعض موقفا عاديا أو تجربة مألوفه يجد فيه الكاتب -بحساسيته- أمرا باعثا للألم والأرق. وهذا ينطبق على تجاربه الذاتية ومشاهداته من تجارب الآخرين. وحتى لا يتخذ هذا عذرا لإهمال الكتاب وعدم إيلائهم الإهتمام الكافي يقول مدن: "لسنا نقول إنه لكي يكتب الكاتب كتابة مبدعة وأصيلة عليه أن يكون مريضا أو مضطهدا، وإلا لفقد كل المطالبات بتحسين ظروف الكتاب ورعايتهم.. إنَّ الأمر هنا ينطوي على دعوة لأن تؤخذ بعين الاعتبار فرادة وخصوصية الفضاء الخاص بالمبدعين، الذي يتطلب درجات أعلى من الرفاهة في الإصغاء لذواتهم، وتوفير البيئة الحاضنة لهم، ثقافيا وإنسانيا".

وفي موضوع "الكتابة بيدين حرتين" الذي عنونت به مقالتي يتحدث حسن مدن عن الكتابة بالورق والقلم والكتابة الحاسوبية، ويذكر شيئا عن بياض الورق ورائحة الحبر اللذين يحرضان الكاتب على الإبداع، وهو أمر يفهمه الكتاب الذين بدأوا مسيرتهم الكتابية قبل توافر الحواسيب، ومفكرة الملاحظات في الهواتف -حيث إنها لم تكن ذكية كفاية لتساند الكاتب في مهمته- أما بالنسبة للكتاب الشباب الذين تعودوا على استخدام الحاسوب فلا أعتقد أن الأمر بالنسبة لهم يتخذ هذا الشكل الحميمي، فهم يبحثون عن أسهل وأفضل وسيلة لتدوين ملاحظاتهم ومسوداتهم وتحريرها بما يلزم من حذف وإضافة وتعديل. ولهذا فإنهم مستعدين بكل سهولة من التنقل من برنامج حاسوبي لآخر يتيح لهم ميزات أفضل بكل سهولة ودون أدنى شعور بالذنب. والأمر نفسه ينطبق على طقوس الكتابة؛ حيث كان أغلب الكتاب يبتكرون طقوسا خاصة تهيِّئ لهم الجو للبدء في الكتابة، وعليه فهم لا يستطيعون الكتابة إلا في ظروف معينة وأماكن محددة، أما نمط الحياة السريع اليوم فلا يوفر هذه الرفاهية للكاتب الذي يسرق من ساعات يومه المعبأ بالأعمال بضع ساعات يكتب فيها مسوداته ويصب فيها أفكاره. وحتى لو توافر له الوقت الكافي وتفرغ للكتابة فلا أظن أن طقوسه ستتخذ تلك الأشكال المتطرفة التي كان بعض المبدعين يفعلها، كالإمتناع عن الاستحمام أو الإمتناع عن تناول الطعام.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك