حدث ذات يوم!

هلال الزَّيدي

في ذات يوم، وذات ليلة، عندما يمَّم شطر الغربة التي لم يتعوَّد عليها، لكنه رسمها قبل حدوثها أو بعد وقوعها أو أنه سجلها لحظة بلحظة كي لا تفر من ذاكرته؛ فحاول أن يسردها حكاية مُلبَّدة بغيوم الحاجة.. فكان الحدث.

عبر مُكبِّر الصوت يأتيه الإعلان إيذانا ببداية الغربة: "رحلة رقم (EK867) والمتجهة إلى دبي على متن الخطوط الإمارتية بعد قليل ستفتح الأبواب. فعلى المسافرين إنهاء إجراءات سفرهم".. ينظر إلى الساعة، مردِّدا: لا يزال هناك وقت، لكنني أنهيت كل الإجراءات. هنا تطوف عليه ذكريات تلك الحالمة التي تريد أن تزرع ذاتها بين أحضانه بما أوتيت من سلطان وجسد ممشوق القوام؛ فهي من أطلقت عليه "الرجل الشرقي". ليتذكر ردَّه عليها: "لا يهم إن كنت شرقيا أم غربيا، المهم أنَّني أستطيع أن أحلم بعيداعن مزابل التاريخ".

ولا يزال يتذكر جيدا يدها وهي تمتد حاملة معها رواية "الأسود يليق بك" للروائية أحلام مستغانمي؛ لتأكِّد عليه أنه عليه قراءة الرواية؛ ففي تلك اللحظة "لحظة وجوده في المطار" أراد أن يمد يده ليتناول الرواية، لكنه فضل أن يبدأ بها في عالمه المنتظر؛ لأنَّ قراءة رواية لهذه الكاتبة الأكثر انتشارا في العالم العربي كما صنفتها مجلة "فوربس" الأمريكية يحتاج إلى مكان مناسب ووقت أنسب؛ لأنَّ صلابة الأفكار الجزائرية الفرنكفونية تحتاج إلى مُعين لسبرها، وبلد المليون شهيد لا يستعصي عليه شيء.

"ما من قصة حُبٍّ إلا وتبدأ بحركة موسيقة، قائد الأوركسترا فيها ليس قلبك، إنما القدر الذي يخفي عنك عصاه بها يقودك نحو سلم موسيقي لا درج له ما دمت لا تمتلك من سيمفونية العمر لا مفتاح "صول".. ولا القفلة الموسيقية. "أحلام مستغانمي".

قصص الحب كثيرة، وضحاياها كثيرون بعدد رمال الشواطئ، لكنها تبقى قصصًا موجعة عند تذكرها وتنتهي بانتهاء حيز التفكير الذي تزاحمه مستجدات القدر، كان يراها سندريلا، ويرسمها الموناليزا، ويتوِّجها زهرة اللوتس في نقائها وبياضها الذي يحمل معه البراءة، فأخذتْ تكبُر في لبه ويسقيها من شوقه وغرامه؛ فكتب فيها كلامًا من النثر سمَّاه شعرا لأنه أتى من صميم شعوره وإحساسه بها، كان يتأملها في زياراته المتقطعة كأنها خلقت لتكون له، لا يدري من هو بالنسبة لها؟ إلا أن الأمل جعله يتمسك بسراب لا يعرف نهايته، لم تعطيه شيئا يُسكت به فضوله ونهمه القلبي، لكنه كان مستمتعا بتلك الأجواء، يعيش حلم طفولي جرته الويلات إلى خنادق اللارغبة، لكن هي في قرارة نفسها ما هذا إلا واحد تربطني به صلة قرابة لا غير. ومع مرور الأيام والسنين، وبلوغه النضج العاطفي، تبلورت لديه الرغبة إلى شتات لا يؤتي ثمارا أو حتى جزء من الواقع؛ فأهمل الحنين والشوق، وداس على لعبة الطفولة التي لا صوت يسمع لها، ليوجِّه عقله وقلبه إلى حيث الحب الواقعي، هي قصة مبتورة مرَّت مرور الكرام كما يعتقد، وكما اتضح الواقع فيما بعد.

على ارتفاع ليس بالبعيد تبدو مسقط جميلة بأنوارها المتلألئة؛ فالساعة الرابعة والخمسة والخمسين دقيقة فجرا.. تبتعد الطائرة شيئا فشيئا تمخر السحاب الثقال.. فتصغر الحياة لتصبح كحبة فستق أنهكها الملح ترسبا.. الأحاديث جميعها تدور حول توحيد جدول الرواتب وكيف سيتم تسكين الموظفين، هي أخبار سارة ينتظرها المواطن بتعطش بعد سنوات عجاف مرت على الزيادات المتعثرة في الرواتب؛ فهناك نقيض المساواة بين موظفين الوحدات الإدارية للدولة، والتذمُّر سيد الموقف أينما تذهب، والتوحيد كفيل بإذابة تلك الأملاح المتكورة على حبة الفستق لتكون سهلة المنال فيما بعد؛ حتى هو لا يدري كيف سيكون وضعه الوظيفي، لكنه مؤمن بأنه سيأخذ حقه وما كتبه الله له.

مطار دبي الساعة السادسة إلا خمس دقائق، يتوه بين وجوه المسافرين، كأنه في بلد لا ينطق العربية، لكثرة العابرين من هذا المنفذ الجوي، يقرأ الهامات الغادية فلا يتحسس للعرق العربي؛ لهذه الدرجة أصبحنا؟ عليه الانتظار طويلا لمدة تناهز الأربع ساعات حتى يحين موعد سفره إلى ملبورن كمحطة ثالثة قبل وصوله إلى أوكلاند، كعادته لا يستطيع النوم على الرغم من الجسد المثخن بالتعب والفراق لأن العيون إذا نامت؛ فالفكر يظل مستيقظا حتى يستفرد بمكان هادئ يمارس فيه راحته.

تمضي الساعات بطيئة جدا؛ يعبث بهاتفه متجولا بين التويتر والفيسبوك، بدأت بعض الطيور بالتغريد، كل حسب وجهته؛ إحداهن تستفز قريحته من خلال همساتها الفيسبوكية عبر حسابها لتمارس أوجاعها على شتى الأصعدة.. فتكتب:

"عندما قررت أن أصرخ بهمساتي عبر صفحتي هذه، كنت أتحدى كلماتي، أن تحلق.. وتصل إلى من يتذوقها، فأطمح إلى نقد هادف يدفع بي إلى الأمام، ولن أسمح بمن يقذف بكلمات أو تعليق، لا يليق بصفحتي هذي، ولكم كل الاحترام".

يبتسم ثم يستسلم لسطان الكتابة والاستفزاز.. ويكتب رادًّا عليها:

"دعي القافلة تمضي، ولا تكترثي لمن ينعق من خلف الأسوار، فربما يكون صراخ وهتافات تمجيد، وحريٌّ بأن هناك من يتلذذ بمثلها، حقا إنه التناقض بعينه، وهم البشر، لا تهتمي أبدا، وأنا واحد ممن ينتظر الهمسات".

دقائق معدودات، وتتهافت عليها رسائل الإعجاب والإطراء؛ لتذهب بعيدة وتضع له إعجابا بما كتب ردًّا عليها؛ لأنَّه ناصرها في فكرتها ليس إلا، ليبتسم ويتمتم، جميعكم هكذا، تتصادمون وتختلفون عبر شاشات وأسلاك متشعبة، وبعضكم يعيش قصص حب خياليه وأحداث درامية، وكله في موقع افتراضي، لا يفرق بين الأنثى والذكر، فاحلموا.. حتى يناااام القمر.

تعلن الخطوط الإمارتية عن رحلتها رقم (EK 406) والمتجهة إلى أوكلاند عبر مطار ملبورن للسادة المسافرين الكرام التوجه إلى البوابة رقم A2 لإنهاء إجراءات سفرهم.. يحمل حقيبته ويلقي بنظرة أخيرة على امتدادات ذلك المطار الذي صُمِّم ليكون أفضل المطارات عالميا؛ فعلى الرغم من أن دبي لا تزال في سباق مع الزمن فإنها ترى أنها لم تفعل شيئا، وما حدث في تلك الفترة من لغط حول علاقة الجيران ببعضهم؛ فإنَّ دبي تعيش بمعزل عن تلك المهاترات لأنها مدينة اقتصادية عالمية ليس لها نوازع سياسية إلا المحافظة على كيانها العالمي فقط، وما يحاول الآخرون فعله تجاه تلك الحضارة الرابضة على التاريخ لا يسمع له إلا طنينا سيجد من يبيده في يوما ما عن بكرة أبيه، وسيبقى الأصل أصلا مهما كانت المحاولات للبحث عن تاريخ على حساب قيم التراث والأصالة.

على متن طائرة الإيرباص من طراز (A380) الجديدة، يأخذ مقعده رقم (E 49) ويترك العنان لأفكارة بأن تسرح لأن أمام مسافة طويلة جدا؛ فالمسافة إلى ملبورن بأستراليا تقدر بـ10966كم، والزمن التقريبي الذي ستستغرقه الرحلة هو 15 ساعة و40 دقيقة.. كم تمنى أن تكون بجانبه تهون عليه مشقة المسافة.

البدن مرهق إلى حدِّ الثمالة، والنوم يستعصي عليه في ذلك الوضع؛ لأنه في الدرجة العادية أو كما تسمى (ECONOMY)، فبديهيا أن يتسمر في مقعد لا يجد فيه الراحة.. وأمثاله لا استطاعه لهم على درجة رجال الإعمال (البيزنس) لأنه لا يعد من الطبقة المخملية.

أدار شاشة العرض أمامه، وبدأ يقلب فيها علَّه يجد ضالته في فيلم يقصر عليه مسار بعيد.. فتقع عينه على فيلم "بعد الموقعة".. وهو فيلم مصري يتناول أحداث ثورة 25 يناير وموقعة الجمل، تبدأ أحداث الفيلم في مارس 2011 مع الاستفتاء على الدستور وتنتهي في أكتوبر، تتدور أحداث الفيلم حول شاب اسمهُ "محمود" من منطقة تسمى "نزلة السمان" يعمل خيَّالا وهو شاب جاهل يُخدع ويشارك في موقعة الجمل اعتقاداً منه بأن الثوار خونة وضد الاستقرار، ويقوم بدور "محمود" الممثل باسم سمرة، و"ريم" التي تعمل في شركة للإعلان وتنزل الشوارع وتختلط بالناس وتكتشف مشاكلهم وتقوم بدور "ريم" الممثلة منة شلبي.. فتتلاحق الأحداث وتستمر حتى يعود في قناعاته إلى نفس المغزى الذي يبلور التغيير والربيع العربي، فيغلق عينيه، ما هي إلا دقائق حتى يحس بأن أحدهم يضع عليه غطاء؛ فيلتفت فإذا هي بجانبه مبتسمة له بكافة زينتها، نم فإنك مرهق، كيف عرفتي؟ من عينيك لأن العيون مخبأ الرجال، يرد عليها فيقول: أراكِ بارعة في قراءة العيون، فترد: لكنك ما زلت على السطح فهناك غرز بعيد يختبئ خلف تلك العيون، يسألها: وما هو؟ فتول: عليك اكتشافه.. لكن لا يهم، من أين أنت؟ فيرد: أنا من هنا.. من هذا الوجود العابر للقارات.. تسأله: أهي فلسفة؟ يجيبها لا.. هو جواب. صمت.. ثم تعاود وتسأله: أتشعر بالبرد؟

فبسرعة متناهية يقول: إن كان البرد يقربني منك فأنا أرتعش بردا.. فترد عليه: إذا تحتاج إلى دفء، وكيف الدفء ونحن على ارتفاعات شاهقة، أو في الارتفاعات لا يوجد دفء، ما عليك إلا لملمته واحتضانه، هنا يضع رأسه على صدرها ويسمع خفقانه المتسارع؛ فجأة يرجع لمكانه، لتقول له: ما بك؟ فيقول: لقد سمعت دقات قلبك تتصارع مع نفسها، ومن يدري أهو ارتعاش اللذة؟ أم خفقان الحياة؟ فتجيبه: أخمن بأنك شاعر أو كاتب تمتلك مخزون ثري من الكلمات.. مبتسما لها: الحمد لله أنها كلمات وليس لكمات..! هنا تغني له: "يُسمعني حين يُراقصني كلمات ليست كالكلمات"، فيقاطعها: لأنك شامية النطق فبديهيا بأن تتغني بصوت ماجده الرومي. تدير جسدها إليه وتقول: يا سيدي، هذا عشق يبحث عن اللفظة الرزينة تولد في دواخلي منذ صغري، لكن قل لي أين ذاهب؟ هل إلى نيوزيلاند أم أستراليا؟ فيجيبها: ذاهب إلى نيوزيلاند.

متحسِّفة: يا خسارة كنت أتمنى أن أرافقك إلى هناك، لكنني سأضطر للهبوط عنك في ملبورن؛ لأنني أدرس هناك الطب.. فيقول: ولِمَ الخسارة أمامنا مسافة طويلة نتسامر فيها لتبقى ذكرياتها مع كل مشرط تتدربين عليه مع تلك الجثث الميتة. تتنهد فتقول: لا أريد المجازفة بأي حركة تعلن عن سوء فهم، مستغربا منها: ليس هناك سوء فهم، كل منا له عقله ومشاعرة التي يتحكم فيها بحكم المكان والزمان، تُغمض عينيها وتسند ظهرها إلى المقعد فتقول: المشاعر.. وهل هناك من يقدر مشاعرنا تجاه الغير؟ فيجيبها: نعم، لا ينتهي العالم بلا شعور له قيمة تتجسد في كل حرف يستنطق تلك المشاعر؛ حتى الجماد يشعر بنا عندما نقترب منه أو نلامسه. فقط علينا أن نعي وجهات مشاعرنا ومفاهيمها، ونفرج عن حقائق ما نحس به للآخرين مع الاحتراس بعدم التجريح، وإيذاء من لا يحتمل الإرهاق الحسي، في تلك اللحظات يد ناعمة الملمس تربت على كتفيه وتحاول إيقاظه من حلمه السريع. قائلة: أرجو ربط حزام الأمان لأننا ندخل الأجواء الأسترالية، ينظر إلى جانبه فيرى شقراء تتهيأ لربط الحزام. آه أين هي إذن؟ أين ذهبت؟ يا للحلم المزعج الذي فتت العزلة.. وأعاده إلى الواقع.

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك