متى نطبِّق التربية العسكرية في مدارسنا؟

علي المطاعني

تشرَّفت بحضور الاحتفال بتخريج فوج 22 من طلاب التربية العسكرية لمدارس الصحوة، وقد هالني ذلك العرض الذي قدمه طلاب في الصفين التاسع والعاشر، كان أشبه بالاستعراضات العسكرية للمخضرمين في هذا السلك، والإتقان غير العادي للفنون العسكرية التي قدموها في العرض أمام نخبة من القادة والأهالي والمعلمين والمعلمات الذين ظلوا مُبهورين بما يقدمه فلذات الأكباد من استعراضات وتشكيلات رائعة يؤديها الناشئة الذين تدربوا ما يزيد على 120 ساعة على مدار عامين على أيدي مدربين من وحدة المهام الخاصة بشرطة عمان السلطانية.

... إنَّ التربية العسكرية التي تطبقها مدارس الصحوة إحدى المهارات التي يتطلب أن يتعلم فيها الطلاب العديد من القيم كالانضباط والالتزام، ‏ومهارات الفنون العسكرية التي تُكسبهم الكثيرَ من المهارات الهادفة إلى تهيئة الشباب للمرحلة المقبلة من الاعتماد على النفس والبذل والعطاء، وتمنيتُ لو أنَّ هذه التجربة تُنقل إلى كافة مدارس السلطنة لما لها من مكاسب عديدة في إعداد أجيال المستقبل بتوازن يؤهلهم للدخول إلى معترك الحياة، وهم متهيؤون لها بشكل يقيهم من متغيرات تعصف بهم في الوقت الراهن وتغذيها وسائل التواصل والتقنيات الحديثة التي لها من الإيجابيات مثلما لها من السلبيات التي تتطلب تهيئة أجيال الغد لها بتوازن لا يخل بتربية أبنائنا؛ الأمر الذي يفرض التفكير في توسيع نطاق التربية العسكرية في مدارسنا في كل المحافظات إن لم تكن في كل الولايات، وتوفير ما يلزم من مقومات، خاصة وأن أجهزة قوات السلطان المسلحة وشرطة عمان السلطانية لديها قدرات كبيرة لبدء هذا المشروع الوطني الكبير.

وبلا شك، فإن التربية العسكرية لها من المكاسب ما لا يكفي لاستعراضه في هذه العجالة؛ فهي مدرسة في تربية الأجيال على أسس قويمة، تعزز الانتماء للوطن، وتُرضعهم القيم الوطنية الهادفة إلى الحفاظ على المكتسبات المتحققة وتقدير المنجزات، وتكسبهم مهارات‏ التعاطي مع الأمور بجدية تفتقدها الأجيال اليوم للكثير من المشاغل ووسائل الترفيه، خاصة في ظل متغيرات عصيبة تحتاج إلى بناء الفرد على العديد من المثل والأخلاقيات التي تحصنه من الانجرار إلى المسالك الخاطئة وترسِّخ فيه معاني قيمة تبعده عن الأخطار التي تحيط به وتجعل لديه المناعة الذاتية التي تحصنه من الكثير من الموبقات، وهو ما يعزز تسريع مثل هذه الخطوات في مدارسنا لصياغة شخصيات أبنائنا بشكل متوازن يساعدهم على الولوج بقدرات تعد لحياة أفضل تقوم على معرفة الحقوق والواجبات وتكسب الفرد الاعتماد على الذات ونبذ الاتكالية والكسل.

ومن تجربة شخصية، سألت أحد الأبناء ممن انخرطوا في التربية العسكرية عن الاستفادة منها بعد تخرجه بعد انقضاء عامين في التدريب، فأجاب باختصار باللهجة العامية إنها -أي التربية العسكرية تصلب الطالب، فهمت مقصده الذي اختصر مكاسبها في كلمتين، قليلة في العدد، كثيرة في الوصف وعميقة في المعاني، والكل يدرك دلالاتها؛ فالحصانة الذاتية التي تبلورها التربية العسكرية في نفوس الطلاب يصعب اختراقها لما يتهيَّأ عليه المنضوون لها بإتقان كبير في تعلم مبادئ وقيم تعزز الإيجابية، والتفاعل مع الغير وتغمرهم بالمثل العليا والأخلاقيات الحميدة التي تغرسها في نفوس الناشئة من أبنائنا، بل تجعلهم أشداء في معترك الحياة قادرين على مواجهة مصاعبها وموقنين بتحدياتها وكيفية التغلب عليها.

... إنَّ البعضَ قد يفسِّر تطبيق هذا المسلك كنوع من التعبئة‏ العسكرية في البلاد وزيادة أعداد المجندين وغيرها من المفاهيم المغلوطة عن هذا الجانب في عصر العلم والمعرفة، إلا أنَّ الموضوع ليست له علاقة بهذا الجانب، أكثر من تهيئة الأجيال في هذا العصر الذي يجب علينا أن يكون أبناؤنا فيه متسلحين بقيم الانضباط والالتزام والاحترام للوقت وتقدير الأمور بشكل متقن، والتفريق بين الغث والسمين في هذا الوقت الذي تزداد فيه الملوثات العقلية، للعديد من الدواعي التي تفرض علينا توجيه طاقات الوطن للبناء وخدمة المجتمع، بل ومعرفة الحقوق والواجبات التي يتطلب أن يتشربها أبناء الوطن منذ نعومة أظافرهم للاستحقاقات المستقبلية.. الكل يدرك أهميتها ويعي خطورتها.

إنَّ الحياةَ العسكرية -كما يعرفها الجميع- مصنع للرجال الواعين بمقدراتهم والمتحملين لمسؤولياتهم، والمدركين لما يحيط بهم، ومتسلحين بكل ما يمكنهم من التغلب على مصاعب الحياة ومتاعبها، ومكتسبين معنى القيادة المتدرجة وكيفية الوصول إليها من خلال السمو إلى المراتب الواحدة تلو الأخرى التي لا يمكن الوصول لها إلا من خلال البذل والعطاء والتمكن من مفاصل القيادة، فضلا عن اكتساب معاني الحياة العسكرية بشظفها وقسوتها التي تجعل التجربة لدى الفرد مؤثرة في حياته تكون حاضرة في مراحل عمره يتذكر ما اكتسبه منها من معان وما علمته من أصول أعانته في مساره، إضافة إلى ما تكسبه العسكرية من ‏تعلم الفنون القتالية والدفاع عن النفس والعتاد العسكري وكيفية استخدامه وتركيبه، ومهارات الرمي والسير...وغيرها من الجوانب التي يبقى الفرد ممتنّا لاكتسابها كمهارات عملية تساعده في مواقف حياتية متعددة.

بالطبع.. نُدرك أن تطبيق التربية العسكرية في المدارس ليس بالأمر السهل ومكلف في الإعداد والتحضير وغيرها من التكاليف، لكن القيمة المضافة بالمفاهيم الاقتصادية في المقابل كبيرة، تعد استثمارا طويل المدى ذا جدوى على العديد من الأصعدة والمستويات التي تسهم في بناء المواطن الصالح الذي يعود بالنفع على وطنه، يسخر طاقاته وإمكانياته في البناء لا الهدم، وإصلاح الغير، وبذلك تعظم المكاسب في هذا الشأن في مقابل التكاليف مها بلغت.

نأمل أن نبدأ في تطبيق التربية العسكرية في مدارسنا وتجربتها في نطاق محدود لكي نقيِّم مردوها الايجابي في الكثير من الجوانب الشخصية والوطنية.

Ali. Matani2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك