أوباما في هافانا على المحك

عبيدلي العبيدلي

يوم الأحد 20 مارس حطت طائرة الرئاسة الأمريكية في مطار خوسي مارتي في هافانا، في زيارة "تاريخية كونها تعتبر الأولى من نوعها لرئيس أمريكي منذ 88 عاما. ليصبح أوباما أول رئيس أمريكي يزور كوبا منذ زيارة كالفين كوليدج عام 1928." وفي سياق سعيه "لترطيب الأجواء"، دون أوباما في تغريدة له على "توتير" لدى هبوط طائرته في كوبا تقول "متشوق لرؤية الشعب الكوبي وسماع صوته".

تأتي هذه الزيارة في أعقاب محادثات مضنية وشاقة امتدت، ما يزيد على ثلاث سنوات " استعادت الدولتان، خلالهما منذ بدء التقارب، العلاقات الدبلوماسية، ووقعتا اتفاقات تجارية في مجال الاتصالات، ورحلات طيران وتعزيز التعاون فيما يتعلق بتنفيذ القانون وحماية البيئة"، دون أن يعني ذلك وضع حد نهائي لقضايا أخرى عالقة وتثير الكثير من الجدل "خصوصا فيما يتعلق بالحظر المفروض على كوبا منذ 54 عاما، واستمرار احتلال قاعدة بحرية أمريكية لخليج غوانتانامو"، الذي يصر أوباما على أنه "أمر غير قابل للنقاش."

كل ذلك لا يعني أنّ الثقة بينهما حلت مكان الشكوك، فما تزال عبارات الزعيم الكوبي فيديل كاسترو تتردد على أفواه الكثيرين من الكوبيين الذين يتمسكون "بعدم ثقتهم في سياسة الولايات المتحدة". وبالمقابل يتمسك أوباما بعبارته المشهورة "إن انعدام الثقة هي مسألة متبادلة بين الغريمين.. لكن المفاوضات الثنائية بين البلدين هي لأسباب دبلوماسية واستراتيجية".

وبخلاف الكثيرين ممن يحصرون الخلاف الأمريكي - الكوبي في السنوات التي أعقبت تحول هذه الأخيرة من النظام الرأسمالي إلى النظام الشيوعي، وبداية انقلاب تحالفاتها الدولية لصالح المعسكر السوفياتي خلال مرحلة الحرب البارد، يرجع عالم اجتماع وسياسة أمريكي، والمؤسس والمدير التنفيذي الرئيسي لمؤسسة "ستراتفور" للأبحاث السياسية والاستخباراتية الأمريكية، جورج فريدمان هذا التنافر إلى بداية القرن التاسع عشر. يورد فريدمان تفاصيل ذلك في مقالته الموسومة " الأهمية الاستراتيجية لكوبا"، والتي يعرض ملخصا لها الكاتب في صحيفة "الأهرام" المصرية محمد بسيوني، يستهله بالإشارة إلى أن ما تمثله كوبا "من تحد جيوسياسي - بالنسبة للولايات المتحدة بدأت في العام 1803، حينما اشترت الولايات المتحدة منطقة لويزيانا، التي كانت خاضعة حينها للسيطرة الفرنسية، إذ أنّ الرئيس الأمريكي آنذاك، توماس جيفرسون، عدّ لويزيانا منطقة مهمة للأمن الوطني الأمريكي لسببين جوهريين، أولهما أنها كانت توفر عمقًا استراتيجيًا مهمًا للدولة، لاسيما أنّ سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت كانوا متمركزين في المقام الأول فى شرق جبال الأبلاش في شريط طويل يمتد من نيو إنجلاند إلى الحدود بين جورجيا وفلوريدا، وهذا التمركز عزز من إمكانية تعرضهم للانكشاف والغزو الخارجي. أما السبب الثاني والأخير، فقد كان جيفرسون يتبنى رؤية للرفاهية والازدهار الأمريكي تتأسس على ضرورة امتلاك المزارعين لأراضيهم الخاصة، وألا يكونوا مجرد أجراء وأقنان، وكان من شأن امتلاك أراضي لويزيانا الثرية تحقيق هذه الرؤية، نظراً لما ستنتجه من ثروات تسهم في بناء الدولة الأمريكية، فضلا عن تزويد هذه الدولة بالعمق الاستراتيجي المطلوب لتأمينها. "ويرصد بسيوني مجموعة من العناصر التي أوردها فريدمان وهي التي تضع كوبا في مقدمة المناطق التي تحتل مكانة استراتيجية في السياسة الخارجية الأمريكية، وتدفع واشنطن "لإدراك أهمية الحفاظ على نفوذها داخل كوبا بصورة تحول دون وصول أنظمة حاكمة معادية لها، أو ارتباط هافانا بقوى خارجية يمكن أن تشكل تهديدًا للمصالح الأمريكية"، وهي التي تفسر عدم كف دوائر الاستخبارات المركزية عن محاولاتها المتكررة لاغتيال الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، أو الإطاحة بنظامه، ومن أبرزها ما يعرف باسم "غزوة الخنازير"، خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي جون إف. كينيدي، الذي وافق على إرسال "مجموعة شبه عسكرية من المرتزقة لشن غزو على كوبا، يتضمن إنزال 1400 من قوات الكوماندوس التابعة للـ C.I.A على شاطئ خليج الخنازير الكوبي في أبريل 1961، على أمل هزيمة حكومة فيديل كاسترو اليسارية إلا أن الزعيم الكوبي استطاع التصدي للغزو بقوة حاسمة". وتلت ذلك محاولة اغتيال كاسترو مباشرة في العملية المعروفة باسم "السيجار المنفجر"، ثم كانت هناك أيضا ما يعرف باسم "منصة بنما". وآخرها كانت تلك التي كشفت عنها وكالة أسوشيتد برس والمعروفة باسم عملية "تجنيد مغني راب".

ورغم ما أثارته سياسة الانفتاح الأمريكي على كوبا من تفاؤل في صفوف العديدين من متابعي تلك العلاقات حتى خلال فترة مراحلها المتردية، لكنها ما تزال تحتفظ بمساحات من عدم الثقة المشوب بنكهة من الحذر لدى بعض الكوبيين، من أمثال الضابط المتقاعد بالجيش الكوبي ألفريدو أروتشيه الذي يعبر بهذا الشعور المتناقض بين الرغبة في تطبيع العلاقات وعدم الثقة في واشنطن قائلا "سنرحب بالرئيس أوباما بكل احترام. ولكن علينا ألا نكون شديدى التفاؤل إزاء الاستثمارات الأمريكية في بلادنا؛ لأنه إذا ما حدث ذلك، فسوف يسيطرون علينا مرة أخرى".

من الجانب الأمريكي، هناك أيضا من لا يندفع في تفاؤله بشأن الزيارة وقدرتها على تطبيع العلاقات بين كوبا وأمريكا في هذه المرحلة، كما يشير الباحث البارز بمؤسسة بروكينغز، داريل ويست، الذي يرى أن هذه التحول إنّما يعود في جوهره إلى فشل "العقوبات الأمريكية التام، ويأمل الرئيس في أن يستطيع الخروج بنتائج أفضل من خلال المساومات والمفاوضات، مضيفا أن أوباما يحول تركيزه إلى السياسية الخارجية في العامين الأخيرين له في منصبه"، بعد أن فشلت فشلا ذريعا مجموعة من المشاريع التي حاول أن يصلح بها الوضع الداخلي المتدهور، وعلى وجه الخصوص تلك التي تتعلق بإصلاح البنية الاقتصادية.

كل ذلك يضع أوباما في كوبا على محك دقيق سيجد أوباما نفسه أمام تحديات كبيرة إن هو حاول تجاوزها.

تعليق عبر الفيس بوك