حيَّاه الله..!

عائشة البلوشيَّة

الحمد لولي الحمد والنعمة كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه.. يُعجبني رد كبارنا أعطاهم الله عمرا مديدا ومتعهم بالصحة والعافية عندما يُعلِّقون على أمر جلل مر بهم: (إللي يجي من الله حيَّاه الله)، أي مرحبا بكل شيء وكل شيء يأتينا من الله؛ ما أجمل التسليم بقضاء الله وقدره في كل أمر.

لِمَ لا نعطي أنفسنا برهة من الزمن لا تتجاوز النصف ساعة في اليوم، ونتجرد من التفكير في المأكل والملبس والسكن والعمل وضغوطات الحياة، ونركز تفكيرنا في جزئية معينة ومحددة من جزئيات النعم التي تشملنا، ولنبدأ بمفردات أجسادنا على سبيل المثال ونتفكر فيها، وكيف لو اختفت هذه النعمة؟ تُرى كيف ستكون حيواتنا دونها، ولأدلل على ذلك: سآخذ العين كونها أداة/عضو البصر في أجسادنا؛ حيث كرَّم الله تعالى الإنسان بأن جعل له عينين، فماذا لو اختفت إحداهما؟ ما الذي سيحدث؟ علميًّا يقولون بأن الإنسان يفقد خُمس قوة حاسة الإبصار بفقده إحدى عينيه، ولست هنا بصدد إعطاء درس تشريحي للعين، فالمقام لا يتسع لذلك، ومع ذلك فإن الإنسان يحس بفجوة تتطلب وقتا ليعتاد على ذلك النقص، ولنترك العين عضو الإبصار نتفكر في "السِّن"، ذلك الجزء الصغير من العاج وتوزُّعه في فم الإنسان، ودوره في المضغ والقطع وتيسير الحديث وغيرها من الأمور الدقيقة، وكيف هي الحال عندما يحدث تسوس أو حساسية في أحد الأسنان؛ فالفرد منا لا يهنأ له عيش ولا نوم بسبب ذلك الوجع؛ وإذا أخذنا أعضاء الجسم وتفكرنا فيها بأنها نعم عظيمة كسانا الخالق إياها، ووقفنا أمام هذا الجسد كله وأمام كساء الصحة والعافية الذي سربلنا إياه المولى -عزَّ وجل- سنقف عاجزين عن التعبير، فنعمة الصحة لا يدركها إلا من غزت جنود المرض جسده، فأي شيء يقارن بجرعة باراسيتامول أو غيرها من العقاقير عندما يغزو الصداع رؤوسنا، فمهما صبرت وحاولت تجاهله، لن يترك رأسك إلا بأمر الله، وقس على ذلك أي علة تعن هذا الجسد الضعيف أمام جرثومة لا ترى بالعين المجردة، مهما بلغت قوة أي جسد بشري فهو أمام قدر الله ضعيف هش.

كان إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- يسير في الطريق، فوجد رجلا كفيفا مقطوع الأطراف مجذوما، ثيابه رثه والناس يمرون به، وبعضهم يضع الطعام في فمه إشفاقا عليه، فأخذ ينظر إليه متأملا فإذا بذلك الرجل يقول: "الحمد لله على نعمه العظيمة وعطاياه الجسيمة"، فألقى إبراهيم بن أدهم السلام عليه، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا إبراهيم! قال: كيف عرفتني؟ فقال: ما جهلت شيئا منذ عرفت الله، قال له: ماذا كنت تقول آنفا؟ قال: كنت أقول الحمد لله على نعمة العظيمة وعطاياه الجزيلة، قال: ما الذي جرى ﻷطرافك؟ قال: بترت، قال: ما الذي على جلدك؟ قال: الجذام، قال: أين بصرك؟ قال: كف، قال: أين بيتك؟ قال: قارعة الطريق التي تراني عليها، قال: من أين تأكل؟ قال: من الرزق الذي يسوقه الله لي على يدي خلقه نعمة منه، قال: فأين النعم العظيمة والعطايا الجزيلة يا هذا؟ قال: يا إبراهيم، ألم يُبقِ لي لسنا ذاكرا وقلبا خاشعا!؟ قال: بلى، قال: فأي نعمة أكبر من هذه؟!

من هذه القصة وسط كم هائل من القصص التي توصلنا إلى نفس الخلاصة، نجد أن هناك نعمة عظيمة جدا غير كل النعم التي تحيط بنا أو تكون أجسادنا، يمكن أن نذكرها ولن تحويها موسوعة كاملة، هناك نعمة إذا استحضرناها في كل مفردات يومنا سنجد أن أرواحنا مسكونة براحة ما بعدها راحة، ألا وهي نعمة "الرضا"، نعم، الرضا بكل شيء يأتينا في أي لحظة، نتبعها بالحمد والشكر الخالص من قلوبنا، دون سخط أو تذمر أو السؤال: "لماذا أنا؟"، سنجد أنفسنا نتعامل مع أنفسنا ومع خالقنا برقي وسمو، ونجد طعم الجمال يلون كل شيء حولنا، وسنتعامل مع كل مشكلة تمر بنا على أنها هبة ونعمة جليلة من الله تعالى اختصنا بها دون غيرنا من عباده، وأننا يجب أن نأخذ بالأسباب ونتفكر في كيفية حلها، أو الصبر عليها مخاطبينها بقولنا: "ما جئت إلا لمغفرة ذنب أو رفع درجة، وأنه تعالى أعز وأجل وأكرم من أن يعذب ضعفنا بك"، ونحاول أن نستخلص الحكمة أو العظة أو العبرة في مرور تلك المشكلة أو ذلك الابتلاء في طريقنا، وفي هذا المقام لا أقصد الخنوع والركون إلى الكسل والتواكل، بل القصد هو التعبد لله تعالى بهذه الخاصية الإلهية في التفكر والأخذ بالأسباب والتوكل على الله، وإذا ما بحثنا في القرآن الكريم لوجدنا أن الرضا قد ورد في ثلاثة وثلاثين آية، توضح أهمية هذا المسلك لحيواتنا في الدارين، وأنها نعمة تدر لنا السعادة الدائمة.

"ما يأتي من الله.. حيَّاه الله"، عبارة تحمل الجليل والجميل من الرضا بالقضاء، كمية من الرضا تملؤنا بطاقة إيجابية أمام المد الذي يحيط بنا من كل حدب وصوب، ويكسبنا مناعة قوية ضد الهجمات السلبية التي تحاول غزو أجسادنا، وما أحوجنا في عصرنا هذا لهاتين النعمتين العظيمتين (الرضا والحمد)، لتمتلئ أرواحنا قبل أبداننا بالإيجابية والنورانية، والذي بدوره سينعكس على كل شيء حولنا.

--------------------

توقيع:
"ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي، جعلت الرجا مني لعفوك سلما.. تعاظمني ذنبي فلما قرنته، بعفوك ربي كان عفوك أعظما.. إليك إله الخلق أرفع رغبتي.. وإن كنت يا ذا المن والجود مجرما، فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل.. تجود وتعفو منة وتكرما" (الإمام الشافعي).

تعليق عبر الفيس بوك