سايكس بيكو.. زيارة جديدة (2-2)

عبيدلي العبيدلي

وكي يتسنَّى لأية وقفة عربية تسعى جادة لتحقيق هدفها الأسمى والأكثر إلحاحا، وهو الخروج من "فوبيا" سايكس بيكو التي تحصرُ الفكر العربي في تلك المداخل التي أشرنا لها أولا، وترغمه على الدوران حول نفسه عندما يحاول الوصول إلى الخروج من شرنقتها الضيقة، التي باتت تشدِّد خِنَاقها على كل مشروع عربي نهضوي يحاول التمرد على سايكس بيكو وإفرازاتها السياسية المدمرة على الكيان العربي ثانيا، بغضِّ النظر عن صيغة ذلك الكيان وأطره السياسية. لا بد لهذه النظر -إن هي شاءت النجاح- من التمرُّد على أسر مجموعة من المسلَّمات التي يمكن تلخيص الأهم منها في النقاط التالية:

1- اللهث العربي غير المبرَّر الباحث عن الصيغة النهائية التي ستؤول إليها خارطة "سايكس بيكو الجديدة". وفي مثل هذا اللهث إجهاد للذات وراء أكثر من سراب، من الطبيعي أن تغذيه القوى التي لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في سايكس بيكو الجديدة. فطالما هناك اتفاق على أنَّ مشروعا تقسيميا جديدا يحاك ضد وحدة المنطقة، فمن غير المهم، على المستوى الإستراتيجي الصرف، الغوص في تفاصيله، والمطلوب عوضا عن ذلك مواجهته كمشروع، بغض النظر عن النتائج التي يتوخى الوصول لها. المواجهة المقصود بها هنا تلك التي تجتَّث المشروع من جذوره، ولا تكتفي بردعه، ولا تقبل بخطط تعطيله فقط، أو إرجاء موعد نقله من الحيز النظري إلى مرحلة التنفيذ العملي.

2- الانطلاق من منصة عربية واحدة تحثُّ العرب على كنس مخلفات اتفاقية سايكس بيكو، وتؤسِّس لفكر عربي موحَّد يأخذ على عاتقه مناهضة إفرازات تلك الاتفاقية بناء على فهمنا، ومن ثم معالجتنا للأسباب التي قادت إليها، في ضوء رؤية عميقة لمصالح الدول التي حاكتها حينها. هذه الخطوة ضرورية وينبغي لها أن تسبق أي تحرك عربي جاد يحاول نسف تلك الاتفاقية من جذورها، بدلا من الاكتفاء بالمحاربة الشكلية لأعراضها. ولا يتطلب هذا الأمر العودة كثيرا إلى كُتب التاريخ وأحداثه، فليس هناك من ينكر -بمن فيهم الدول التي وقعتها، وتلك القوى التي باركتها- أن إعادة تقسيم المنطقة العربية حينها قد تم ليس استجابة لقوانين تلك المنطقة السكانية والبشرية، بل وحتى السياسية، بقدر ما كان مطلوبا منه أن يخدم المشروع الاستعماري تجاه تلك المنطقة حينها.

3- الحاجة إلى كنس مفهوم الأمة العربية الواحدة السائد في أذهان ومخيلات الكثير من المفكرين والكتاب العرب خلال النصف القرن الماضي، ناهيك عن المواطن العربي العادي، وإطاره السياسي الوحدة العربية، ولا أقول الانتماء الحضاري العربي للغالبية الساحقة من سكان ما هو متعارف عليه دوليا وإقليميا بالمنطقة العربية. هذا المفهوم الذي يقود نحو تحقيق هدف تشكل كيان سياسي عربي موحد، تحت مظلة سلطة سياسية واحدة في المستقبل القريب المنظور، لا بد من إزالته من ذاكرة الثقافة العربية المعاصرة كخطوة لبناء أي مشروع حضاري عربي يهدم بناء سايكس بيكو القديمة، ويقف في طريق أخرى بديلة لها.

4- التخلص من ذهنية دائرة المصالح القطرية الضيقة، أو تلك الإقليمية المحدودة، نحو فضاء عربي سياسي واسع ورحب. هذا الخروج وذاك الدخول، يحتاج إلى وضع برنامج عربي شامل يميز بين ما هو إستراتيجي طويل المدى، ونظيره التكتيكي ذي المدى القصير، يتمتع بالمرونة الكافية التي تبيح له الانتقال بين الإثنين وفقا للظروف القائمة أو تلك المستجدة، والمزاوجة المبدعة، البعيدة عن ردود الفعل التلقائية الآنية التي قد تخاطب العواطف وتدغدغها، لكن جذورها سطحية وغير قابلة للصمود في وجه أية رياح مضادة تهب عليها.

5- المزاوجة الناضجة والقابلة للتطبيق بين أربع دوائر لا يمكن إلا أن تكون متكاملة لأي مشروع يروج له، يطمح لامتلاك القوة والمقومات التي تبيح لها النجاح، وتساعده على تخط العقبات التي من الطبيعي أن يجد نفسه مضطرا إلى تجاوزها، وربما محاربتها في بعض الأحيان. أول تلك الدوائر هي الاقتصادية، تنجم عنها الدائرة الثانية وهي الفكرية، وتتكامل معها بشكل مبدع السياسية، قبل أن تصل، بسلاسة إلى الدائرة التنظيمية. فأي بناء اقتصادي بحاجة إلى خلفية فكرية تعضده، ومن غير الطبيعي أن ينجح الاثنان ما لم تكن هناك حاضنة سياسية تحميهما، ولا يمكن لهذه الحاضنة أن تستمر في الصمود والنمو والتطور، في غياب الأطر التنظيمية التي تتحرك مكوناتها من خلالها وفي أطرها.

6- التمرُّد على المثاليات التي تتوهَّم أن سايكس بيكو الجديدة هي من صُنع القوى الخارجية فحسب، ولا تخدم سوى مصالحهم بما فيها تلك التي تتطابق مع المشروع الصهيوني بشقيه الجغرافي والسكاني. فربما يفاجأ الفريق العربي ممن سينذر نفسه لإجهاض سايكس بيكو الجديدة أن أعدائه المحليين أكثر، وربما أشرس من أولئك الدوليين أو الإقليميين. ومن ثم فمن الخطأ القاتل لأي مشروع مناهض لـ"سايكس بيكو" الجديدة أن يسقط من حساباته دور "المتآمرين" المحليين من عرب وغير عرب. هذا يقودنا إلى رفض "نظرية المؤامرة"، والنظر إلى سايكس بيكو الجديدة على أنها مشروع استعماري جديد له جذوره الخارجية التي تتغذى عبر أغصانها الإقليمية، وتتنفس من خلال أوراقها المحلية.

... معركة سايكس بيكو الجديدة ستكون أشد من تلك الأولى وأكثر شراسة، ومواجهتها على نحو يضمن إفشالها يتطلب زيارة عربية ثانية جديدة مختلفة عن تلك الزيارات التي حاولت صادقة مخلصة أن تقرأ الاتفاقية بشكل سليم يعينها على التصدي لها، وهذا ما تسعى هذه الزيارة لتحقيقه من خلال مراجعة جادة فاحصة لتلك القراءات السابقة ، من أجل تجاوز مثالبها، والخروج -بعد الاستفادة من أخطاء تلك القراءات- بمشروع عربي ينتشلنا نحن العرب مما نحن فيه قبل أن يكون مصيرنا -بفضل سايكس بيكو الجديدة- مصير سكان أمريكا الأصليين الذي أبادتهم "سايكس بيكو" المهاجرين من الغرب بشهيتهم اللاإنسانية التي لم تشبعها كل أشكال النهب والإبادة التي مارسوها بحق أولئك السكان.

تعليق عبر الفيس بوك