مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (6)

علي كفيتان

لا يزال مُحمَّد يستنطق ذاكرته بكل تفاصيل صباه -حلوها ومرها- مستحضرا مشاهد الحرمان في زمن قلَّ فيه الموجود، ولكنه ومع ذلك ظل هؤلاء الناس دائمي العطاء من القليل، ومحبتهم لبعض ليس لها حدود، تمر عليهم الفصول الأربعة يعيشونها بكامل تفاصيلها.

يقول محمد كانت "طفول" هي عنوان الجمال والحنية والطيبة في بنات القرية، تحب الأطفال وتلاعبهم، وكم كانت تهدينا عند عودتها من المرعى حبات التين اللذيذة، "طفول" ذات طول فارع وبياض ناصع ووجه مشرق جميل تكسوه مسحة الخجل التي تُضفي عليه روح المرأة الريفية بعدا آخر. ذات يوم حضر لقريتنا ثلاثة رجال رجل كبير في السن مفتول العضلات قصير القامة ومعه آخر وبرفقتهما شاب في متوسط العمر جميعهم يعتمرون اللبس التقليدي الظفاري (الصبيغة، والخنجر، والبندقية)، رحَّب بهم الجميع وذبح لهم أبو "طفول" عجلًا وجلس الجميع تحت شجرة التين الوارفة الظل، وحضر جمعٌ من الناس فهذه وليمة لا تعوض وشاهدنا أناس كثير لم نعرفهم من قبل رعاة إبل وأغنام، وحضر في ذلك اليوم رجل يبيع أغراض للنساء على ظهر حماره العجوز.

وبعد الغداء الدسم، وقف الرجل القصير مفتول العضلات ذو الشعر المتدلي على كتفيه، وخاطب أبو "طفول" طالبا يدها لابنه، فسكت الجميع ليسمع الرد من أبو "طفول"، فرحب بالنسب، وقال: "لن نجد خيرًا منكم"، فبارك الجميع الخطبة، وتم تحديد الزواج بعد ثلاثة أيام. أنا لم أفهم بعد ما هو الزواج، فرجعت كعادتي مسرعا إلى مرجعي الأزلي الذي يُفسِّر لي هذه المصطلحات وهي جدتي -رحمها الله- فوجدتها مُستبشرة فرحة، وقلت لها: ما هو الزواج؟ قالت: رجل يختار بنتًا ويأخذها معه؟ قلت: إلى أين؟ قالت: إلى أهله، قلت: وهل تترك أهلها وقريتها؟ قالت: نعم. وفي هذه اللحظات انتابتني نوبة حزن شديد عندما علمت بأن "طفول" الجميلة ستغادر قريتنا للأبد، قلت لجدتي: أنا أرغب في أن أتزوج "طفول"، قالت لي ضاحكة: اذبح بقرة عند باب بيت أبيها كعلامة لاعتراضك على هذا الزواج، وبأنك الأحق بها، وهو من يُقرر. واستدركت الجدة قائلة: لكن قبل ذلك، خذ موافقة "طفول".

ركضتُ مُسرعا إلى رأس الرابية، حيث أجد "طفول" تحت شجرتها مع عجولها، وهنا كانت المفاجأة "طفول" تجهش في البكاء، فقلت لها ببراءة الأطفال: لا تخافي، أنا سأتزوجك، لن أتركك تذهبين من القرية. فرحَّبتْ ومسحت دموعها، وقالت: أنت ما زلت صغيرًا. وجلست بالقرب منها وهي تتكلم عن مستقبلها في قرية جديدة ومع أناس آخرين لم تعرفهم ومراعٍ أخرى غير التي ترعرعت فيها، وفي كثير من الأحيان تغالبها الدموع وهي تنقر برأس عصاها الأرض، فجأة سمعنا صوتًا يُنادي "طفول" من بعيد، لقد أنستنا تلك اللحظات العجول وعادت للقرية، وقلق الجميع على هذا الملاك الجميل، عُدت معها نذهب بمهل وكانت تلاطفني وتقول: لو كنت كبيرا لما وافقت على الزواج من ذلك الرجل الغريب. فقلت لها بعفوية الأطفال: سأذبح بقرة غدا عند باب داركم كما قالت جدتي، وسأظفر بك أيتها الجميلة. فضحكت وقالت لي: أنا سأبحث لك عن عروس في قريتي الجديدة. وعلمت من لحظتها أن "طفول" موافقة على الزواج، ولكنها لا تريد فراق الأهل والقرية والأرض التي ولدت فيها.

وفي اليوم التالي، منعت العروسة من رعي العجول، وأخضعت لجلسات التجميل الريفية؛ حيث أحضرت لها مُصففة الشعر التي جدلت شعرها في ضفائر طويلة تعلوها فصوص الفضة، وفي آخرها الخلاخل، وشيد الناس بيت للعروسين في طرف القرية، وأقيمت الاحتفالات والأهازيج في الليل؛ حيث شلات النانا الحزينة التي تُعبِّر عن جمال وطيبة وأخلاق "طفول" وحُرقة أهل القرية على فراقها، ولقد شاهدت دموعَ جدتي تنزل تلك الليلة. لقد سافر بها الزمن إلى الماضي البعيد، واستحضرت موقف رحيلها عن أسرتها عند اقترانها بجدي رحمه الله.

أستودعكم الله، وموعدنا يتجدَّد معكم بإذن الله.. حفظ الله عُمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك