الفجوات في تاريخ الشعوب (العراق أنموذجًا)

علي المعشني

الفجوات في حياة الشعوب وتاريخها حكايات لا تنتهي، من فجوات معرفية إلى فجوات تعليمية إلى فجوات معيشية إلى فجوات بين الأجيال...وهكذا.

وتوجد هذه الفجوات بفعل فاعل، وأحيانًا بفعل ضمير مستتر تقديره (هو)، وأحيانًا أخرى بفعل الإهمال وتضاد الألويات وتصادمها أو ازدحامها في حياة الشعوب، أو بفعل المفاصل التاريخية الحادة والظروف القهرية التي تمر بها الشعوب أو تُفرض عليها قسرًا وفوق طاقاتها ورغمًا عن رغباتها.

وأخطر هذه الفجوات وأشدها فتكًا هو الفجوات التي تعاني منها الأمم والمجتمعات فتتسبب في تصدع العقل الجمعي لها وتشتيته وحرفه عن الرشد والعقل.

ولعلَّ من أقرب الأمثلة في واقعنا العربي: مرحلة الخلافة العثمانية، والتي تسبَّبت بفجوة معرفية وعلمية للأمة العربية قطعت ما بينها وبين ماضيها في إنتاج العلوم والمعارف لأكثر من ستة قرون متصلة، كنتيجة حتمية وطبيعية لشغف الخلافة العثمانية وزهوها بالقوة العسكرية المفرطة على حساب جميع القوى والمؤثرات الحضارية الأخرى كالجامعات ودور المعرفة والترجمة وبيوت الحكمة والاهتمام بالعلم وتقدير العلماء.

وترك ألا أثر من قبل العثمانيين جعل الأمة العربية جسدًا بلا مناعة إزاء جحافل المستعمرين واحتلالاتهم لاحقًا، ثم تأثيرات غزوهم الثقافي وحملات التغريب المنظمة لطمس الهوية العربية والعبث بثوابتها.

لا يمكن لأي عاقل اليوم أن يقر بأننا أحفاد وأبناء شرعيين لجهابذة علم من وزن الفارابي وابن النفيس وابن سيناء والتوحيدي والرازي...وغيرهم، ونحن نتسوَّل كلَّ شيء على موائد الأمم اليوم، ولكن العاقل يدرك في المقابل أنَّ هذا لا يُمكن أن يكون لولا الفجوات التاريخية القهرية التي مُورست على الأمة العربية في مراحل استثنائية من تاريخها وأفرزت هذه المظاهر والظواهر المعيبة اليوم في العقول والحقول.

وفي العصر الحديث، مُوْرِس على الأمة الإكراه بفجوات معيشية ومعرفية وزمنية قاسية، وكان نموذج العراق بعد احتلال الكويت ولغاية سقوطه واحتلاله والتنكيل به عام 2003م صارخًا جليًّا.

ففي فترة الحصار الجائر، مُورس على العراق الإجهاد المُنظم -للدولة والمجتمع- لينحصر جل اهتمامه في الغذاء والدواء فقط، وللإخلال المعيب بمقدراته البشرية والاجتماعية، بحيث يتجه جيل بأكمله وتحت إملاءات تلك الظروف القاسية إلى هجر مقاعد الدراسة "والجهاد" في سبيل كسب لقمة العيش، بعد أن كان العراق في مصاف الدول الإسكندنافية في التعليم في أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، وتوفر له 45 ألف عالم في شتى صنوف العلم المعرفة، ناهيك عن ضعف هذا العدد في المهجر.

وفي العراق الجريح، أنتجت فجوة اجتماعية خطيرة جعلت من سائق الشاحنة في المرتبة الأولى اجتماعيًا لكسبة وتوفر المال لديه، فيما قبع الطبيب في المرتبة الخامسة في استطلاعات علمية لجامعة بغداد، وأصبح ابن الأستاذ الجامعي إسكافي في الطرقات أو نادلًا في المقاهي بفعل قسوة الظروف المعيشية وشظف العيش، وهذا ما هدف إليه المخطط من الفجوة، وهو إنتاج جيل أُمِّي جاهل تكون مهمته إعاقة المجتمع فكريًّا وعلميًّا وتنمويًّا، بلا وعي منه أو شعور، ولينتج عنه لاحقًا جيل أكثر جهلًا وفشلًا.

ليس من المستبعد أن يكون زاد الدواعش في العراق وسوريا اليوم وطابور الطائفية من الجيل الذي أنتجه الحصار وكفر بكل قيم المجتمع وموروثاته ونواهيه.

لو حلَّلنا بلغة عقل هادئة كُنه الربيع وتداعياته وأدواته، لوجدنا الفجوات في كل جنباته من فجوات معرفية والتي تفاوتتْ فيها وسائل المعرفة والفئات التي تمكنت منها وغيرها المحرومة، وفجوات التعليم التي لهثت خلف العمل وأهملت بناء الإنسان، وفجوات إعلامية اهتمت بالإبهار والغرائز وأهملت بناء الفكر وتحرير العقل، وفجوات معيشية كرست الطبقية وقننت التهميش والمعاناة وجعلتها كالقضاء والقدر على رقاب الناس ومصائرهم.

الكارثة اليوم أنَّ الجيل الحالي سيشب على الحقد والطائفية والتشفي والثأر لامحالة، ومن سلم من هذه الأعراض الخبيثة فسترافقه صور البشاعة والقتل والتوحش وهتك الأعراض وإزهاق الأرواح البريئة؛ وبالتالي لن يسلم من إحدى النتيجتين الحتميتين بلاده الدائمة في الأحاسيس والمشاعر تجاه كل فعل مُنكر، وأما الاضطرابات النفسية المزمنة فنتيجة ما استقر في العقل الباطن من صور وذكريات ومواقف سالبة.

سنخسر في الغالب جيلا قادما أو بضعة منه، بفعل الربيع وتداعياته، ففجوات الربيع فواجع من العيار الثقيل، ولن تزول بيسر من العقل الجمعي والضمير والذاكرة.

-----------------------

قبل اللقاء: استعان الزعيم لينين بمهندس كهرباء روسي عدو للثورة ومناصر للقيصر لربط الاتحاد السوفيتي بشبكة كهرباء واحدة في أعظم مشروع في التاريخ البشري.. وقال له: لك كل الخيار والحق في العداء للثورة، ولكن لا تعادي وطنك.

وقال الزعيم ستالين لشحذ هِمَم الروس مقابل الخطر النازي: إن بلد ماكسيم غوركي وتشايكوفسكي وبوشكين وتولستوي في خطر، فتحققت المعجزات على الأرض، بينما كان الطفل "المدلل" حسين كامل يهدد ويصفع عقول العراق بالأحذية عند مدخل وزارة التصنيع الحربي لأتفه الأسباب!! لهذا انهار العراق ومنجزاته، وبقي الاتحاد السوفيتي ووريثته روسيا عمالقة في عالم الكبار.. وبالشكر تدوم النعم!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك