بين تفاحة نيوتن وأمباة المظفورة

عائشة البلوشية

"مو نتوه والرحمة؟" أول سؤال بين كافة العمانيين بعد نعمة الغيث، ويكون الرد بأجمل من السؤال: "رحمة بادة الحمد لله" إذا كان لهم نصيب من الغيث، وإذا لم يكن فتكون الإجابة: "يرحم والديك ووالدينا من الفقر والنار، الخير جاي"، حوار وكأنه سجال بين الجميل والأجمل، وكأنّ لغة المطر يجب ألا تتجاوز هذه المفرادات المحشوة بالحمد والشكر والابتهال، وإذا كان المطر غزيرا ومصحوبا برياح فإنّ السؤال السابق يتبع بسؤال مغلف بالدعاء يزيده إيمانا بالقضاء والقدر بقوله: "عسى ما شيء ضياع أو طياح؟"، و"ضياع" إذا تعلق الأمر بالخسائر المادية في المنازل من جدر أو أسقف، أما "طياح" فيتعلق بالشجر، وهو للاطمئنان عن حال الشجر من نخل وغيرها، ويتضح الاهتمام بكل تفاصيل الحياة، والإحساس بالقريب والجار، ويتجاوز الأمر ليصل إلى الشجر والمدر، ﻷنّ الضياع أو الطياح يقتضي بأن يمد الجميع سواعدهم ويعمل ليساهم في رفع الضرر؛ ما أجمل هذه المشاعر والإحساس بالآخر، وإذا تخطت الحالة ما ذكر آنفا فإنّ دوي صوت التفق (البندقية) يعلن حالة الطوارىء، وهو كفيل بأن يجعل المجتمع يتهافت لمد يد المساعدة.

الطبيعة منذ أن خلق الله الأرض وما عليها قوة كاسحة إذا ما أراد الله بها ذلك، وفي قصة الطوفان في زمان سيدنا نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- العبرة والموعظة، فعندما بدأ الماء في الارتفاع وأمر الله تعالى نبيه بأن يركب زوجًا من كل نوع من الحيوان في السفينة، طلب الأب النبي من ابنه أن يركب معه، لكن الابن ظنّ أنّ الجبل سيعصمه، فكان من المغرقين؛ ورغم وعي أجدادنا ومن سبقونا بالمجاري المائية والأودية والشعاب، وحفظهم للأرض ودروبها كدرايتهم بخطوط أكفهم، وانتباههم ﻹنشاء قراهم ومدنهم على ضفاف الأودية، وابتعادهم التام عن بطونها، إلا أنّ ذلك لم يمنع تأثرهم الشديد بالجرفة أو الغرقة (الطوفان)، عندما كانت تأتيهم في بعض السنين، وقد كانت المزون السوداء مؤشرا لهم ليهربوا بما يستطيعون حمله واللجوء إلى كهوف الجبال المحيطة بهم، وكم سمعت من حكايات دخول الوادي الكبير لدينا في ولاية عبري إلى المنازل البعيدة عن مجراه قديما، عندما يتحد مع الشعاب المحيطة، فيلتهم المنازل والمزارع دون رحمة، لذا فإنّ أمر الله إذا جاء لا يقف أمامه تخطيط أو رسم، ومن المهم جدا أن نعرف بأنّه من النادر جدا جدا أن نسمع بأحد الأجداد مات جرفا بواد أو أحد الشعاب، وذلك ﻷنّهم ادركوا أن الله تعالى خلق الكون وقدر لكل شيء قوته ومكنوناته.

تعلقنا بالبيئة بتفاصيلها من نبات وجماد وحيوان، فأصبحت جزءا لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية، فأصبحت العشبة الخضراء في طريقنا إلى المدرسة علامة، والشجرة الباسقة صاحب، والنخلة الصامدة قريب، وعرفنا أسماءها ورددناها وتساءلنا عن أماكن تجمعنا في الطفولة، لنحدد لنا أحد تلك الأسماء المشهورة، وكم كنا نصاب بالحزن عند سقوط إحدى أشجار النخيل أو السفرجل أو الأمبا بعد العواصف المطرية، ولا يمكن إنقاذها وتصبح مآلا للقطع، وأحب الأشجار على الإطلاق إلى قلبي أمباة "المسيكة" في منزل جدي الشيخ سويدان بن محمد غفر الله له ورحمه، والتي سميت بهذا الاسم بسبب رائحة ثمارها الزكية وطعمها اللذيذ، وقد شاخت في العمر ولكنها لا زالت تنفحنا بثمار قليلة كل موسم، وأسأل الله أن يمتد عمرها، فهي ليست شجرة مانجا وحسب، بل كائنا يعرفه جميع سكان العراقي وما حولها، فقد كانت ثمارها توزع على كل من يمكن أن تصل إليه؛ ولا أدري كيف انتقلت الصورة في مخيلتي إلى شجرة التفاح التي جلس نيوتن يتفيأ ظلالها، لتنفحه بتفاحة كانت هي بداية قوانين الجاذبية، عندما رأيتها لا تزال مغروسة في كيمبريدج وقد وضعت شريحة نحاسية تشرح للسائح ما يشبع فضوله حول هذه الشجرة، وبالرغم من خلوها من الأغصان الكثيرة أو الأوراق، إلا أنّها تمثل أهمية تأريخية في التوثيق الثقافي والعلمي، لذلك جاء الحرص على أن تبقى باسقة طوال هذه السنون رغم فقدانها لرونقها ونضارتها، وكان خبر سقوط أمباة المظفورة في قرية سرور في سمائل بمحافظة الداخلية، السبب الرئيسي ﻷن أسرج أفراس ذاكرتي وأعدو بها إلى المملكة المتحدة، فالمظفورة من أقدم أشجار الأمبا (المانجا) في سرور، وكانت إحدى ضحايا الرياح النشطة والأمطار التي حملها الأخدود الأخير، وما أثر بي هو ذلك الوصف ﻷهمية تلك الشجرة وموقعها في نفوس كل من تربى تحت ظلها وتسلق أغصانها، وقبلها في ذات القرية غافة الزريب وغافة المغلغل؛ لأعود إلى الواقع وأتساءل طالما أنّ لمثل هذه الأشجار مكانة تأريخية وثقافية واجتماعية: لماذا نعمد إلى تقطيع الشجرة والتخلص منها بعد سقوطها، وننعيها بحسرة وألم شديدين؟! لم لا يتم محاولة غرسها من جديد؟ حتى وإن كانت الضحية هو التخلص من جزء كبير من أغصانها، أتذكر بأنّ بعض النخل -وخصوصا من نوع "الخرايف"- في الضواحي لدينا تم إعادة فسلها بعد اجتثتها الرياح من الجذور، وكانت تدعم بـ "دكان" مصنوع من جذوع النخل لتظل تعطي ﻷطول مدة ممكنة، ولا يعمد إلى تقطيعها إلا إذا كانت ستعيق مجرى الماء في الضواحي أو هدمت سقفا أو جدارا، فقد كانت الشجرة معنى له وقعه في نفوس المجتمع المحيط، لذا كان التخلص منها هو آخر الخيارات، فكما أنّ هنالك معلما تأريخيا وآخر علميا وغيره سياحيًا فالحال ينطبق على الشجرة كمعلم زراعي، ولنترك لفرحة المطر بصمة جميلة بالتوعية والمحافظة على الأرواح سواء البشر والشجر.

توقيع: "قال السماء كئيبة وتجهما قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما

قال: الصبا ولى، فقلت: ابتسم.. لن يرجع الأسف الصبا المتصرما.."

إيليا أبو ماضي،،،

تعليق عبر الفيس بوك