آفة خطيرة تحتاج إلى استئصال

عبد الله العليان

في المؤتمر الصحفي الذي عقده الادعاء العام الأسبوع الماضي، والذي استعرض فيه القضايا التي باشرها في العام المنصرم 2015، ومنها قضايا الفساد المعروفة (بقضايا النفط والغاز) وغيرها من القضايا، يعد خطوة مهمة لكشف الفساد ومصادره ومخاطره على الدولة والمجتمع، واعتماد الشفافية أمام الرأي العام العماني، وهذا ما يبرز الجدية من الجهات المنوطة بمتابعة الفساد واستغلال النفوذ للقيام، بأفعال مخالفة للأنظمة والقوانين والتعدي على المال العام، بأساليب مختلفة تسهم في مخاطر كثيرة على كل مستويات التنمية في مرافقها المختلفة، وقد أكد الادعاء العام في هذا المؤتمر الصحفي"أن آفة الفساد أخذت في الانتقال من مشروع لآخر، ومن مؤسسة لأخرى، ومن قطاع لآخر، الأمر الذي بُعث على القلق من وصول إلى مراحل قد يصبح معها الفساد واقعاً اجتماعياً واقتصادياً مقبولا ومبرراً، مما سيؤدي إلى الإخلال بمعايير ومواصفات المشاريع والمناقصات، وبالتالي تهتز مبادئ الشفافية والجدارة، وينخفض معه مستوى مواصفات المواد والأعمال والخدمات لتحقيق ربح غير مشروع من وراء تلكم المشاريع، وهو ما سيتسبب حال زيادتها في إحداث شلل تدريجي في قدرة الحكومة على تنفيذ مشاريع التنمية وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، مما يعني في نهاية المطاف خلق بيئة مناسبة للتذمر والاحتقان الاجتماعي".. وقد لاقى هذا البيان، ارتياحًا كبيراً في الرأي العام العماني، والشفافية في كشف هذا الفساد ومقاومته.

ولا شك أنّ هذا التوضيح من الادعاء العام يعتبر طرحاً جديرا بالقدير والاهتمام، لما للفساد من مخاطر كبيرة، تمس المشاريع والمناقصات، وموادها وخدماتها الخ: إلى جانب أثرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا الموقف بلا شك سيساهم في محاربة هذه الآفة الخطيرة، التي منها تعطيل النمو الاقتصادي في كل المجالات، ويفتح الباب على مصراعيه في زيادة التذمر والإحباط والاحتقان الاجتماعي، عند تفشي هذه الظاهرة، والإسهام في تدني أخلاقيات النزاهة والمصداقية في العمل الوظيفي، من خلال التحايل والكذب والإخلال بالنظم والقوانين، وتقديم أعمال ومواصفات، لا تتعادل مع ما طرح من اتفاقات تم طرحها في المناقصات وغيرها من الأعمال، مما يتسبب في مخاطر انهيار المباني ربما على ساكنيها، وأتذكر أنني كنت في بلد عربي منذ عدة عقود، وعندما مررت مع أحد الأصدقاء في أحد الشوارع الرئيسية في تلك البلد، سمعنا انهيارا كبيرا قريبا منا، وعندما سألنا أحد المارة في ذلك عن سبب هذا الانهيار، قال لنا (أن هذا الانهيار سبب من أسباب الفساد) وأن المقاول لم يتقيد بكل المواصفات التي تم الاتفاق عليها في بناء ذلك المرافق الكبيرة، وأن هذه الانهيارات وتحصل بين الفترة والأخرى لهذه الأسباب، ومن آثار الفساد أنّه لا يبحث عن العامل أو الموظف الكفء الذي لا يعرف المحاباة أو اللف والدوران، ولا يقبل الرشاوى، بل يتم جلب الأشخاص الذين يسايرون ما يوافق رغباتهم الشخصية، فالأضرار الناجمة عن الفساد كثيرة جدًا في مناحي متعددة، لعل أهمها الإسهام ـ كما أشار الادعاء العام في مؤتمره الصحفي ـ في (إحداث شلل تدريجي في قدرة الحكومة على تنفيذ مشاريع التنمية وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين)، وهذا ينتشر في مجالات كثيرة تتعلق بالتنمية، ومنها ما يسهم في زيادة تكلفة قيمة المشاريع بطريقة تبعث على الاستغراب، بين المرفق الذي يتم بناؤه، وبين المبالغ التي حددت له! وهذا ما يلاحظه الكثير من المهتمين والمحللين، كما أن من القضايا التي تصيب التنمية في مقتل من جراء الفساد وأساليبه الخبيثة أن يساهم في تراجع أو إضعاف الاستثمار الحقيقي، لأن بعض جوانب الفساد تعيق هذا النشاط، وهذا حصل في بعض الدول، وسببه الرشاوى الباهظة وطلب العمولات الكبيرة من قبل البعض، من المستثمر، وهذا ما يعيق فرص الاستثمار أو من خلال العوائق البيروقراطية الروتين التي تجعل المستثمر يتراجع عن رغبته في الاستثمار، ونحن في عمان ناعي من هذه العوائق الروتينية، كما أن بعض مشاريع التنمية يلحقها التأخير والتعثر، مما يتطلب إعادة النظر في الأوامر التغييرية، وهنا تأتي المبالغ الكبيرة في الأسعار الجديدة، إمّا بسبب قيمة المواد الذي حدث عليها تغيير، وإمّا أن المقاول يستغل هذه الأوامر التغييرية برفع الأسعار الباهظة، وأحياناً تفوق قيمة المشروع الأصلي، وهذا في حد ذاته إهدار للمال العام، وإضعاف للتنمية والنهوض في البلاد، وقد قال معالي الدكتور/ رشيد بن الصافي الحريبي رئيس مجلس المناقصات في ديسمبر، مع أعضاء مجلس الشورى 2014 "أن عدد الأوامر التي أصدرها مجلس المناقصات لعام 2014/ بلغت 218 أمراً تغييراً، وكلفت ميزانية الدولة 365 مليون ريال عماني، وأنّ مجموع الأوامر التغييرية، خلال خمس سنوات كلفت ميزانية الدولة 2.4 بليون ريال"! مضيفاً معالي رئيس مجلس المناقصات في بيانه الشهير بالمجلس، حول التأثيرات السلبية للأوامر التغييرية أن "المدة المحددة لتنفيذ المشروع تزيد بزيادة الأوامر التغييرية بالإضافة إلى زيادة التكلفة مما كان عليه في العقد الأصلي حيث إنّ أسعار بعض المشروعات قد ارتفعت بنسبة تزيد عن %100 من أسعار العقد الأصلي والتأثير على جودة الأعمال، وحصر تنفيذ معظم أعمال المناقصات على عدد محدود من الشركات وعدم إتاحة الفرصة للشركات الصغيرة والمتوسطة لتنفيذ المشاريع حسب إمكانياتها فعلى سبيل المثال في مشاريع الطرق بعض وصلات الطرق التي صدرت بها أوامر تغييرية كان من الممكن أن تطرح كمناقصات داخلية على الشركات الصغيرة والمتوسطة".

وهذا يحتاج إلى أعادة النظر في اللوائح والنظم بما يسهم في وقف هذا الهدر الكبير للمال العام، كما أن الإشارة الجيدة والدقيقة من الادعاء العام في هذا المؤتمر الصحفي، من أن الفساد "في نهاية المطاف يخلق بيئة مناسبة للتذمر والاحتقان الاجتماعي" وهذا بلا شك حالة واقعية ونتيجة طبيعية لأثار هذا الفساد ومسبباته الخطيرة، وقد حصل هذا الأمر في دول عديدة في القرن الماضي، وهذا القرن، ومرت هذه الدول بظروف كارثية كبيرة، لا تزال تكتوي بنارها حتى الآن! فالفساد يخلق بيئة مناسبة للتوتر والاحتقان والتذمر، بما يسهم في عدم الاستقرار الاجتماعي، ثم السياسي، وهذا يحصل عندما يصبح الفساد وكأنه حالة عادية في غياب فاعلية القانون ودوره في كبح جماح الفساد، وتغلغله في المؤسسات والقطاعات المهمة، وفقدان الأمانة والثقة في العمل المؤسساتي، ولذلك فإنّ من الهم أن يتم إرساء قوانين رادعة لمقاومة هذا الآفة ـ وهي تسمية موفقة من الادعاء العامة ـ لأنّها فعلاً مسألة خطيرة، عندما يتحول هذا الأمر إلى ما يشبه الجرثومة السرطانية، حيث كما أشار بيان الادعاء العام "أخذت في الانتقال من مشروع لآخر، ومن مؤسسة لأخرى، ومن قطاع لآخر". وهذا يتطلب الحسم والردع القانوني، ووضع التشريعات القوية التي لا يستطيع الفساد أن يتسلل إلى مواقع المؤسسات المالية والاقتصادية، ومن خلال سد الثغرات القانونية، وهذا ما نتمناه أن يتحقق من المشرع العماني، ومن المؤسسات المعنية بالتشريع، وأقصد هنا مجلس عمان بغرفتيه الدولة والشورى.

تعليق عبر الفيس بوك