أيام معرض الكتاب

أمل السعيدية

في هذه الأيام تشهد مسقط تظاهرة ثقافية تتكرر كل عام، معرض كتاب مسقط في دورته الـ 21.. قيض لي أن أعمل كمتطوعة في إحدى دور النشر الكويتية، لذلك أنا أرى المعرض بعين مُختلفة هذه المرة لأنني قريبة من القارئ والكتاب على حدٍ سواء. الأجواء رائعة للغاية، التقيت الكثير من الأصدقاء الافتراضيين على الواقع وتعرفت على آخرين جددا. وشهدت حفلات توقيع الكثير من الإصدارات العمانية. أود أن أحكي لكم قصة ارتباطي بمعرض مسقط على وجه التحديد، عندما كنت طالبة في الصف الخامس الابتدائي أي قبل حوالي ١٢ عاماً، أخذني والدايّ للمرة الأولى إلى المعرض، كنّا نجر يومها عربة صغيرة نضع عليها الكتب التي اخترناها، اشتريت يومها قصص الأنبياء وكتاباً في تنمية الذات، لم يكن مسموحًا لي أن اتغيب عن الدراسة أبداً، لكنها المرة الأولى التي أفعل طيلة خمس سنوات من الدراسة، حتى أنني طلبت إذناً بالتغيب قبلها بيوم من مديرة المدرسة، لطالما أضحكني هذا عندما كبرت، لكن أمي دائماً ما كانت حريصة على التزامي وانتباهي للدرس. مازلت اتذكر تمامًا ذلك الزحام في المعرض، وصوت الاستعلامات وهي تعلن عن وجود طفلة ضائعة معهم، وبحث أمي عن الكتب، لقد كبرت وأنا أشاهد أمي وهي تقرأ روايات أحدب نوتردام، والبؤساء وأعمال جين إير وكتباً أخرى عن السحر والجن، حتى إنها كانت تضع كتابًا عن الجن على غلافه جني مُتخيل في مكتبة التليفزيون، أرعبني كثيراً وحلمته كثيراً في منامي، عندما خرجنا يومها من المعرض، اشترى لنا والدي وجبة غداء من مطعم قريب وللمرة الأولى أيضاً قضينا اليوم كأسرة على شاطئ السيب، نحن الصحراويون من نُقدِّس المساحات الخلاء في جبال حجر عُمان أكثر، كان الطقس بارداً، والغيوم تطوف في السماء وتسعى.

في السنة التالية، كنت اتحرَّق شوقاً لقضاء يوم مشابه في معرض الكتاب في دورته التالية، لكننا لم نستطع أن نفعل هذا كأسرة هذه المرة، فكان أن ذهبت من المدرسة إلى المعرض، وفي ذلك اليوم على وجه التحديد توطدت علاقتي بالقراءة أكثر، كنت أحس أنني مثل أليس التي تتمشى في بلاد العجائب، مثل مستكشف ماهر وحذق، يقع على كاهله الإفصاح عن مناطق جديدة في العالم، كل هذا كان في الداخل مني، كبير لكنه مستكين، يخصني لوحدي، كأنما تخرج من صدري يدٌ كبيرة، تحفظني بداخلها بعيداً عن الجميع، محمية ومحاطة. في ذلك اليوم اشتريت كتباً صغيرة لجبران خليل جبران وبدأت بقراءة أعماله، كنت استلقي على فراشي الأرضي واقرأ لساعاتٍ طويلة ولأنني كنت أحب الإذاعة المدرسية وحصلت على لقب أميز مذيع طيلة أعوام الدراسة منذ الصف الخامس، كنت أضع علامة تحت الفقرات التي تعجبني لأقرأها على مُعلماتي وزميلاتي، هكذا كل عام، بأسئلة جديدة في كل مرة، بهواجس مختلفة دائماً، ففي سنتي الجامعية الأولى، كنت أبحث عن كتب دينية تتناول مسألة المذاهب والمِلل، وفي السنة التالية، كنت اقرأ في التنوير، بدأتها بمقالة كارل بوبر في هذا الموضوع، لقد أصبح المعرض بالنسبة لي موقفاً للوضوح مع نفسي ومع هذا العالم، ما الذي عليه أنا، بماذا انشغل هذه الأيام، وكيف أفكر، مثل صديق يشهد تحولاتك الكبيرة والصغيرة بصبر شديد. ليس هذا فحسب، فبداية من سنتي الجامعية الثانية كنت أسافر لمعارض الكتب في الإمارات، معرضي أبوظبي والشارقة، ولم أفوت زيارتهما أبداً.

أنظر الآن للناس وهم يمرون في المعرض وأتساءل كم إرادة حرة تتخلق الآن على نار هادئة، ولو جمعنا توق القراء الشغوفين بالقراءة ممن يتمشون الآن في هذه اللحظة في المعرض كم سيبلغ تقدير الطاقة الناتجة عنه؟ كم حلماً يصنع بذراته الأولى الآن عن أماكن حميمة لقراءة الكتب التي ستُبتاع من المعرض ومشروبات دافئة وأخرى باردة ستُشرب بينما نقرأ. كم كتاباً كُتب في أسبانيا مثلاً وترجم في مصر وطبع فيها يلقى به في سيارة شاب من قرية صغيرة في عُمان؟ إنه شيء عظيم أن تمنحنا هذه المناسبة هذا القدر من الأحلام والتساؤلات.

تعليق عبر الفيس بوك