إنتاج المعرفة

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (37)

د. صالح الفهدي

وقف بضعة شباب في خيمة الاختراعات بأحد المهرجانات أمام شاب تقمَّص دور البحار العُماني أحمد بن ماجد، وهو منغمسٌ في دوره يشرح لهم علومه ومنجزاته، بينما كانوا يتلامزون ويتهامزون مُعلقين بسخرية، ومعقِّبين باستهزاء.. هنا -وأنا أنقلُ بصري بين الطرفين- دَارَ في خُلدي أنَّ إنتاج المعرفة لن يتحقق لأمة إلا بعد احترامِها للمعرفة. لا يمكنُ لأية أمة أن تتحدَّث عن استخدام المعرفة فضلاً عن إنتاجها، وهي لا تربِّي النشء والشباب على احترام قيمة المعرفة.

نحنُ لم نزل مُستهلكين لمنتجات الثورة المعلوماتية، ولم نجد الطريقَ بَعْد لاستخدامها الاستخدام الأمثل، والتجاوب معها بالصورة الإيجابية التي تضمنُ لنا عائداً فكريًّا واقتصاديًّا مُؤثراً، هذا فضلاً عن إنتاج المعرفة. انظُر إلى العربي كيف يمرُّ في المعارض والمتاحف العلمية والتاريخية مروراً خاطفاً لا يهمه سوى التقاط الصور، أو إرسال صورة أو مقطع للمتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي، مع استثناء القلة التي تروِّج لسلعة المعرفة مستفيدة من هذه الوسائل الفعالة؟!!

وإذا كانت "الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحرى الناس بها"، فماذا فعلنا نحن العرب المسلمين بها؟! ماذا فعلنا بالمعرفة التي صنعها علماء مسلمون كانوا سبباً في نشأة العلوم وبروز الحضارة العصرية وتقنياتها المتقدمة؟! يقول د.أحمد أبوزيد في كتابه "المعرفة وصناعة المستقبل": "السؤال الذي يشغل بال الكثيرين من العلماء المهمومين بمشاكل العالم الثالث، وقيام مجتمع المعرفة الذي سوف تقاس إليه درجات التقدم والتخلف هو: ما وضع المجتمعات النامية من هذه الثور المعرفية؟ وهل تستطيع استيعابها والتجاوب معها؟ فضلا عن إمكان الإسهام فيها؟ لا شكَّ أنَّ عملية إنتاج المعرفة واستخدامها، بل وتسويقها، تعتبر مسألة جوهرية بالنسبة للتنمية والتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، واللحاق بالمجتمعات الغربية المتقدمة".

القضيَّة الجوهرية ليست الاستيعاب والتجاوب مع الثورة التكنولوجية، وإنما إنتاج المعرفة وتسويقها. من هنا، تتحَّق مصداقية عبارة فرانسيس بيكون "المعرفة قوة"، وتتأكد عبارته "هدف الحياة الأسمى ليس المعرفة بل الفعل"، وتتأصل عبارته الثالثة "المعرفة والقوة الإنسانية مترادفتان".

... إنَّ الدول التي انتشلت نفسها من حضيض التخلف والجهل -مثل فنلندا وماليزيا وسنغافورة- لم تجد أمامها سوى المعرفة مِعْواناً لها لتخرج نفسها، فأولت جُل اهتمامها بالتعليم وشجعت البحث والابتكار. أمَّا الدول التي لم تعِ الوجهة الصحيحة للنهوض فقد بقيت على مسلماتها التقليدية فلم تشم رائحة التطور، ولم تُصبها عدوى التقدم. يقول الرئيس الماليزي الأسبق مهاتير محمد: "لقد مرَّ على الإنسانية وقت كانت الأرض تعتبر فيه هي الأساس الضروري للازدهار والثورة، ثم جاءت مرحلة تالية تتمثل في عصر التصنيع، وفيه ارتفعت المداخن حيث كانت تقوم الحقول. أمَّا الآن فإنَّ المعرفة أصبحت تؤلف -وبشكل متزايد- ليس فقط أساساً للقوة، ولكن أيضا أساسَ النجاح والتقدم؛ لذا يجب أن لا نبخل ببذل أي جهد لإقامة مجتمع ماليزي معلوماتي غني".

إنَّ بعضَ الدول تسعى من أجل إحلال الحكومات الإلكترونية محل الحكومات التقليدية، ولكنها تنسى عنصراً جوهريًّا يسبق هذا الإحلال، ألا وهو إعداد العاملين المتخصصين في هذا المجال، أولئك الذين يطلق عليهم "موظفو المعرفة"؛ لهذا فإنَّ عملية الإحلال لن تكون مجدية في ظل فقدان هذا العنصر الجوهري؛ لأنَّ اقتصاد المعرفة قائمٌ على التخصصية والابتكار والبحث وهو ما يعني وجود موارد بشرية مُهيَّأة للعب هذا الدور من أجل نقل المجتمع بصورة شاملة إلى مجتمع المعرفة. كيف لا نتحدث عن اقتصاد المعرفة ونحن نواجه تحديات الاعتماد شبه الكلي على النفط، بينما نترك وسائل التقانة من أجل تبادل الشائعات والنكات على وجهٍ أغلب..! يؤكِّد الباحث مراد علة، في ورقة بحثية بعنوان "الاقتصاد المعرفي ودوره في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأقطار العربية؛ دول مجلس التعاون الخليجي أنموذجاً"، على "أنَّ امتلاك وحيازة وسائل المعرفة بشكل موجه وصحيح، واستثمارها بكفاءة وفاعلية من خلال دمج المهارات وأدوات المعرفة الفنية والابتكارية والتقانة المتطورة، لابد أن يشكل إضافة حقيقية للاقتصادات العربية وقاعدة للانطلاق نحو التحول إلى الاقتصاد المبني على المعرفة".

لكن على المجتمع الذي يُريدُ أن يتبنَّى اقتصادَ المعرفة من أجل أن يتحوَّل إلى مجتمع المعرفة، أن "يحترم" المعرفة أولاً..! الأمر الذي أعني به أن يكون التعليم فاعلاً في صقل وبناء وتهذيب وتوجيه المواهب والقدرات والذخائر الإنسانية، وأنْ لا يكون مجرد حشو معلومات في خزان وتفريغها في أوراق الاختبار..! أن يتم وضع معايير صارمة ودقيقة لاختيار المعلم، ومن ثَّم وضع الثقة فيه وتقدير مكانته الإجتماعية، ووظيفته السامية. أن يوجه العلم من أجل الإبداع والابتكار وليس من أجل الحصول على "ورقة" تضمن الحصول على درجة مالية، أو وظيفة ما..!. أن لا يتهافت المجتمع على العلم من أجل الألقاب خدمةً للوجاهة الاجتماعية، وليس من أجل تحصيل المعرفة. أن يكون للمبدعين والمخترعين وأصحاب المهارات والمواهب والقدرات المتميزة طرقاً واضحة للنماء والتطوير ترعاها الدولة، وتنفق عليها إيماناً بما يشكله هؤلاء من ثروة وطنية لمستقبل الوطن.

إنَّ منظرَ أولئك الشباب الذين يتغامزون ويتهامزون يدلُّ على عدم تنشئتهم على مبدأ احترام المعرفة، وتقدير مصادرها، في الوقت الذي كانوا فيه وسط جمعٍ من الأجانب لا يفهمون لغة الشارح، ومع ذلك فهم منصتون لعلهم يقتنصون إشارةً ما أو كلمةً عابرة. منظر هؤلاء الشباب الذين لا يحترمون المعرفة يربطنا ذهنياً بالطلاب الذين يمزقون الكتب الدراسية، أو يحطمون الطاولات ويهشمون زجاج النوافذ..! وفي مقابل ذلك، الاستخفاف وهذه الفوضوية التسليم الأعمى لكل مقولةٍ واجتهاد وكأنما هو الوحي المنزل..!! فلا هذا ولا ذاك يصنعان معرفة، ولا ينشئان على احترام المعرفة. يقول الكاتب خالد محمود عبداللطيف: "المطلوب هو احترام المعرفة العلمية وثقافة العلم وترسيخ قيمة التفكير العلمي في حياتنا. فثقافة العلم هي ثقافة احترام حقائق الواقع، الذي يقوم على وجود عدة احتمالات أو إجابات على أي سؤال بدلا من الفكر اليقيني الذي يعتقد أصحابه أنَّ لديهم إجابات مطلقة ونهائية عن كل سؤال يتعلق بحياة البشر وشؤون المجتمع، وهي الثقافة التي تدعو لتكديس الفكر الذي يرحب بالتجديد والابتكار".

إنَّنا إن شئنا أن نتعامل مع المعرفة ونستوعبها تمهيداً لإنتاجها واستخدامها الاستخدامَ الأمثل، فإننا يجب أن نربي الأجيال على احترام المعرفة. أما الإشكالية التي سنقع فيها إن نحن أهملنا هذا العنصر الجوهري للتقدم العصري هو أننا سنصبح أميين بلغة العصر، بل وسنصاب بالانفصام..! ذلك لأن التقدم المتسارع في التكنولوجيا والتغير الاقتصادي المتلاحق سيؤثران على حياة الإنسان، وهنا فإنْ بقينا مجرد مستهلكين لثورة الاتصالات والإنترنت، فإننا بلا شك سنكون مجرد مستهلكين عاجزين عن التأقلم مع نمط الحياة العصري وأسلوب العيش؛ الأمر الذي يعني عجزنا وتخلفنا عن الإسهام في صناعة الاقتصاد الجديد: اقتصاد المعرفة. فالمعرفة هي المنقذ الوحيد من حالة التردي إلى الترقي، ومن التخلف إلى التقدم، وهكذا كانت أول كلمة أُنزلت في القرآن "اقرأ" مفتاحاً للمعرفة، ونقلاً من ظلام الجاهلية إلى نور العلم.

تعليق عبر الفيس بوك