مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (5)

علي بن سالم كفيتان

يقول محمد الذي لا يزال يحكي لي حكايته مع الذكريات، كم هو الصيف جميل في الريف؛ فمعظم الأشجار تزهر وتثمر، ورائحة الزهور في كل مكان، ونحن أصبحنا في مصيفنا الريفي البسيط تحت ظل أشجار التين وبين جموع الناس الطيبة.. لقد خرجت الأسر ومواشيها لهذه الأماكن المفتوحة الجميلة، واستمتعنا لأول مرة -نحن الأطفال- بالسهر الذي كان محظورا علينا في أيام الكهف، كنا نجلس على مقربة من كبار السن في حلقات سمرهم، نستلقي على ظهورنا، وننظر للسماء المكتظة بالنجوم الصافية، وكل واحد منا يقول هذه نجمتي، وآخر بل هذه، وتصرخ جدتي -رحمها الله- لا تحسبوا النجوم، ولا أعلم سبب ذلك الزجر القادم من بيتها، ولمَّا سألتها، قالت: عندما تعد النجوم وتصل فوق نجمك تموت، فقلت ما هو الموت؟ فصمتت قليلا ثم قالت: تذهب ولا ترجع، فقلت إلى أين أذهب؟ قالت: إلى السماء، فضحكت وقلت: إذاً أريد أن أموت لأذهب لتلك النجوم الجميلة.. ولا أخفيكم بأن جدتي تورطت بهذا الحوار.

في تلك الأمسيات الجميلة، تعلَّمت للأول مرة فنيات الطبخ الريفي للحليب الذي يغلى عليه بالأحجار الساخنة، تعلمت كذلك طريقة بناء المساكن، وكم كنا نقلد الكبار في عمل بيوت صغيرة مشابهة، وبنفس المواد، ونقضي الوقت الطويل لتشييدها.

يقول محمد: في ذات صباح، صحوت على سكون غير معتاد، ولم أجد أبي، وأتت أمي مسرعة على غير عادتها، وقالت لي: جهز نفسك أنت من سيحلب الأبقار اليوم، فاستنكرت ذلك، وسألت: أين أبي؟ فهي المرة الأولى التي أُكلف فيها بمهمة جسيمة كهذه، لا أنكر أنني قد تدرَّبت على حلب الابقار، ولكنني لم أصبح محترفا، ومن خلف البيت، رأيت جدتي تنتحب بحرقة وهي صامتة، فقلت في نفسي: ماذا حصل؟ هل أبي تعرض لمكروه؟ ولماذا لا رجل في القرية إلا أنا وبقية الصبية الذين وجدوها فرصة لقياس مهاراتهم في حلب الابقار في ظل غياب الجميع.

رفضتُ القيام بالمهمة إلا بعد معرفة السبب، فهمست أمي في أذني وهي تبكي، وقالت: "لقد مات جدك الراوي"، فقلت بعفوية الطفل: هل حسب النجوم ووصل فوق نجمته كما قالت جدتي، وكزتني أمي وقالت: "احلب، ولا نريد مزيدًا من الأسئلة". هنا قلت في نفسي هل جدي الراوي قد وصل السماء لأن جدتي قالت من يموت يذهب للسماء؟ وهل ذهب معه الجميع ليودعه؟

وقبل وقت الضحى ونحن في وجوم، والنساء تبكي بهدوء، فجأة انطلقت صيحات العويل والبكاء من كل حدب وصوب، فركضنا لنستكشف ما يجري، وإذا به الموكب الجنائزي الأول الذي أشاهده في حياتي.. عدد من الرجال لا يتجاوز العشرة ومن بينهم أبي يحملون نعشًا من الأغصان مُسجى عليه جثمان الراوي ومغطى بشال أخضر، وتبدو جميع تفاصيل الجثمان من الأعلى، فالنعش غير مُغطى كما نراه اليوم، زادت نوبات العويل والبكاء، وبكى الأولاد كذلك، وأنا واقف مندهش وخائف، فرجعت لجدتي مسرعاً وسألتها ألم تقولي لي بأن من يموت يذهب إلى السماء، فلماذا جدي الراوي لا يزال معنا في الأرض؟ وإلى أين يحملونه؟ لم تجبني ودخلت في نوبة بكاء عميقة، ونحيب أدخل الخوف والحزن إلى قلبي، فأخذتني في حضنها و"طبطبت" على رأسي.

الفضول الإنساني جرني لمتابعة ما جرى، ركضت وحيدا خلف الجنازة، ولم يشاهدني أحد، وكنت أبكي، وكان خلفي رجل لا أعرفه يجر بقرة بحبل قصير، وكانت البقرة مطيعة تسير معه بكل انسياب.. الصمت يخيم على الموكب الجنائزي، وفجأة التفت أحدهم وصاح: إلى أين أنت ذاهب؟! قلت لهم بعفوية: "أنا أحب جدي الراوي، أريد أن أودعه قبل أن يصعد للسماء". لم يكن باستطاعتي العودة، فصطحبوني معهم، وبعد مسير طويل دخلنا المدينة وهي بيوت حجرية لم أرها من قبل، ودخلنا المقبرة، وهناك كان بضعة رجال قد حفروا حفرة في الأرض ويجلسون حولها، وتم ذبح البقرة خلف سور المقبرة، أدخل الجد إلى مثواه الأخير وانصرف الجميع تحت شجرة قريبة، وأخذوا وجبة دسمة بعد هذا العناء، وعلمت بعدها بأنَّ من يموت لا يذهب للسماء، بل يدفن في التراب.

أستودعكم الله.. موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.. حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك