التراث الثقافي والتنمية المستدامة

أمل الجهوريَّة *

يشغلُ مَوْضوع التنمية، اليوم، الحيزَ الأكبرَ من اهتمامات البشرية؛ سواءً على المستوى الفردي أو على المستويات الواسعة للدول؛ بحثاً عن خيارات يُمكنها أن تكون عاملاً محرِّكاً في تحقيق تلك التنمية بأنواعها، مُركِّزين في سعيهم الدؤوب على التنمية الاقتصادية؛ باعتبارها العجلة المساهة في تحقيق العائد المنتظر لاستمرارية عطاء الشعوب وحياتها؛ إلا أنَّنا في واقع الأمر نبدو بذلك التفكير محدودي النظرة؛ لأننا نملك مفاتيح متعددة يُمكنها المساهمة بشكل فاعل في تحقيق التنمية الاقتصادية؛ ومنها: التراث الثقافي الذي تزخر به الكثير من المجتمعات بتنوعه وثرائه المادي وغير المادي، والذي نَسْعى لتحقيق التنمية المستدامة له في خططنا وبرامجنا الإستراتيجية.

وتعدُّ السلطنة إحدى الدول التي تمتلك مخزوناً ثقافياً بتراثها المتنوع والممتد منذ قرون بتشكل العديد من الحضارات، وتضمه اليوم الكثير من المؤلفات والمخطوطات، وتجسده العديد من الشواهد التاريخية والأثرية المنتشرة في مختلف محافظات السلطنة، وترصده العديد من التقنيات السمعية والبصرية؛ ليكون إرثا تتناقله الأجيال وتستفيد منه، هذا إضافة إلى ما يشهده من تسجيل وتوثيق على المستوى العالمي من خلال قائمة من التراث المسجلة لدى اليونسكو ضمن القائمة التمثيلية لاتفاقية اليونسكو لحماية وصون التراث غير المادي.

إنَّ التراثَ الثقافيَّ يُعد من الأدوات بالغة التأثير في الإنسان، وأحد أهم المبادئ للتنمية المستدامة، وهذا الأمر لن يتأتى إلا من خلال إيجاد رؤية متكاملة لا تعنى بحمايته وتوثيقه وتصنيفه وتدوينه وإضفاء صفة الجمود عليه فحسب، بل تمتد لأعمق من ذلك من خلال البحث والتطوير وصياغته في قوالب تناسب العصر، بما يؤدي إلى إبراز قيمته التاريخية والثقافية، وإظهار غناها وتنوعها وجمالها بما يسهل توظيف مفردات التراث الثقافي في الخطط والاستراتيجيات للتنمية المستدامة.

ويعدُّ وجود البرنامج الإستراتيجي للتراث الثقافي العُماني الذي تنبثق رؤيته من الأهمية التي يمثلها التراث الثقافي بوصفه مادة إستراتيجية لها قيمة تنموية واقتصادية، حيث يقوم البرنامج الإستراتيجي للتراث الثقافي العماني بدراسة مواد التراث الثقافي دراسة علمية بمختلف المنهجيات العلمية الحديثة؛ بغية الوصول لمجموعة من الأهداف الإستراتيجية المرتكزة على مفاهيم القيم والهوية والأصالة من ناحية، ومعايير التنمية والتقنية والمعاصرة من ناحية أخرى ليكون هذا البرنامج رافدا مهما من روافد الخطط الاستراتيجية المتعلقة بالتنمية الوطنية بشكل عام وبتنمية التراث الثقافي في عمان من ناحية أخرى.

وقد بُني البرنامج الإستراتيجي للتراث الثقافي العماني ليكون وحدة تُعنى بالتراث الثقافي في سلطنة عمان وتوظيفـه في التنمية المستدامة من خلال إجراء دراسات علمية في التراث الثقافي العماني حسب أولويات ومحاور محددة يعمل بها وتفيد في التنمية المستدامة، وحفظ وتوثيق مواد التراث الثقافي العماني والبحوث العلمية في هذا المجال، وبناء قدرات وكفاءات في المجال البحثي للتراث الثقافي، وإيجاد شراكة وسبل تعاون في المجالات البحثية بين مجلس البحث العلمي ومختلف الجهات الحكومية، إلى جانب تعزيز دور التراث الثقافي في الثقافة المحلية والمساهمة في نشر وتسويق مواد التراث الثقافي المادي وغير المادي داخل السلطنة وخارجها.

... إنَّ وجودَ هذا البرنامج يعكسُ جهودَ السلطنة في الاستفادة من تراثها الثقافي نحو تنمية مستدامة، إضافة إلى جهود سابقة لها في العناية بهذا الجانب، وهو يحسب للجهات القائمة عليه، ولكن لا بد أن يكون هناك تكافؤ في المعادلة في صون هذا الموروث والحفاظ على بقائه من خلال الإلتفات إلى الجهود الفردية التي يقدمها أبناء عمان بمبادرات شخصية منهم، وأقصد هنا أصحاب المتاحف الخاصة وبيوت التراث الذين تصب جهودهم في ذات الهدف الذي وجدت من أجله هذه البرامج بالحفاظ على هذا التراث الثقافي والحضاري، وفتح قناة للتواصل عبر تلك الجهود لتعريف الأجيال بتراثها وثقافتها، وربطهم بها عبر وسائل حديثة تدفعهم للحافظ عليه وإدراك مسؤولية بقائهم، وإضفاء صبغة العصر وروحه على ذلك التراث رغم اختلاف الآليات؛ الأمر الذي يجعل عملية دعمهم من الأهمية بمكان لتحقيق الغايات المنشودة، واستثمار التراث الثقافي ليس في البحث فقط وإنما في التفعيل والتسويق، لا سيما إذا ما وجدت لدينا الإمكانيات والسبل اليسيرة لتحقيق هذا الجانب من خلال تفعيل آليات دمجه في البرامج السياحية الداخلية والخارجية التي بدورها تختصر الكثير من المسافات في التعريف بهذا التراث وتساهم في ربطه بالتنمية الاقتصادية؛ الأمر الذي يضمن لنا ديمومة العناية به وتوجيه استثماره؛ ليظل وجوده مرتبطا بحاجتنا للتطور والتغيير عبر مر الأزمان.

* باحث إعلامي أول بمجلس الشورى

Amal.shura@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك