استقلالية القرار العماني قيمةٌ حضاريةٌ وتاريخيةٌ

محمد بن عبد الله العلوي

لا ريبَ أنّ الحضارة العُمانية ضاربة في عُمق التاريخ، وكان للعمانيين القدح المُعَلَى، وقصب السبق في خدمة الحضارة الإنسانية والرقي بها في مختلف المجالات العلمية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، ويشهد التاريخ لهم بعلو شأنهم، ورقي أخلاقهم، وسمو أهدافهم، كما كانت عمان ولا تزال مركزاً حضارياً تشرق منه أنوار السلام والحكمة في وقتٍ أصبحت هذه المصطلحات عُملة نادرة في عالمنا المعاصر الذي تتلاطم فيه أمواج الفتن، والحروب.

ويذكر لنا التاريخ أنّ عُمان كانت من ضمن الدول التي تشرفت باستقبال مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته الكريمة التي يدعو فيها أهل عُمان للدخول في دين الله القويم، حيث بعث صلى الله عليه وسلم رسائل إلى ملوك الفرس، والروم، ومصر، والحبشة، وعُمان وهو ما يعني أنّ عُمان كان لها شأن عظيم، حيث كانت مملكةً عربيّةً آمنة، يحكمها ملوكٌّ من قبيلة الأزد العربية هما عبد وجيفر ابني الجلندي بن المستكبر، كما يوحي إرسال الصحابي عمرو بن العاص إلى عُمان والذي كان معروفاً بالدهاء، والحنكة، والفصاحة، والإقناع، وقدرته على الحوار، إلى ما يتميَّز به العمانيون من قدرة على مقارعة أرباب الفصاحة واللغة، واتِّصافهم بالحكمة ورجاحة العقل، الأمر الذي جعلهم يقفون موقفاً إيجابياً من الدعوة الإسلامية، إذ سرعان ما استجابوا لله ورسوله، ودخلوا في دين الله عن إيمان ورضا، فصدق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إنّي لأعلم أرضاً يُقال لها عُمان ينضح البحر بناصيتها، ولو أتاهم رسولي ما رموه بسهمٍ ولا حجرٍ"، كما دعا لهم سيد الخلق عليه الصلاة والسلام بالخير والهداية وألا يُسلّط عليهم عدوًا من غيرهم.

وكما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نالت عُمان مجدا سامقا شرفا رفيعا في عهد الخلفاء الراشدين فترصعت هامات العُمانيين بأوسمة العز والشرف وقلادات الفخر والمجد فأثنى خليفة رسول الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أهل عُمان ثناءً عاطرًا، نظير تصديقهم لرسالة الإسلام وثباتهم على مبادئه في وقت أرتدت فيه الكثير من قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة رسول الله، وفي عهد الخليفة الراشد عُمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت عُمان من الأمصار التي مصَّرها وأمر أن تقام بها الجمعة، والأمصار هي: مكة، والمدينة والبصرة والكوفة والشام واليمن وعُمان، وهي دلالة على مكانتها ضمن حواضر الإسلام.

وقد حافظت عُمان على استقلالها وسيادتها في أغلب فترات التاريخ، لأنّ الطبيعة العمانية جبلت على رفض التبعية، والانقياد لأيّ قوة خارجية، فكم من قوة تحطم غرورها وطغيانها وجبروتها على صخرة العزيمة العُمانية، فبقيت عُمان على الدوام دولة حرة مستقلة، تنافح عن سيادتها، وتدافع عن حضارتها، بل لم يكتف العمانيون بحماية وطنهم فقط وإنما توجهوا لتحرير الشعوب المستضعفة من نير الاحتلال الأجنبي، ولا أدل على ذلك من النضال الكبير الذي قاده العمانيون لدحر الاستعمار البرتغالي عن الخليج العربي، وسواحل إيران والهند وشرقي إفريقيا.

إنّ استقلالية القرار العماني ينبع من كون التجربة السياسية العمانية هي نتاج تراكم حضاري، جسدته التجارب التاريخية التي مرت بها عُمان على مدى آلاف السنين، وأثبت خلالها العمانيون قدرتهم على التفاعل الإيجابي مع الحضارات الأخرى، وساهموا في نشر الثقافة العربية والإسلامية إلى شعوب شتى في مختلف بقاع الأرض، وحملوا لواء السلام أينما حلوا، فكانوا صناع حضارة، وأرباب فكرٍ معتدل، و في وقت كانت أغلب الدول العربية واقعة تحت سيطرة الحكم العُثماني، أو الاستعمار الأوروبي، كانت الإمبراطورية العُمانية تنسج علاقات تقوم على الندية وأسس الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة مع مختلف الدول الكبرى آنذاك.

وفي العهد الزاهر والميمون لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه- تفرَّدت السياسة العُمانية بمبادئها الداعية إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، وحل الأزمات بالطرق السلمية، والابتعاد عن العنف والصراعات الطائفية، وهو ما جعلها تحقق نجاحات كبيرة في الميدان السياسي، وساهمت في حل العديد من القضايا المستعصية، وصارت مسقط قِبلة للوفود السياسية الطامحة للاغتراف من معين السلام والحكمة الذي لا ينضب، ولتستنير من الفكر القابوسي الذي أدهش العالم بنظرته الثاقبة للأمور، وتعاطيه المتوازن لحل أعقد المشكلات السياسية في المنطقة والعالم.

إنّ السياسة العمانية هي أساس راسخ لا تحركه الأهواء والعواطف ومزاجيات الأشخاص فهي كالطود الشامخ لا تزعزعه عواصف الفتن الطائفية الهوجاء، ولا مُغريات الأحلاف الوقتية، فهي تسير وفق نهج عنوانه الحوار والتعايش ونبذ الفرقة وعدم اللجوء إلى العنف لأنّه يدفع باتجاه العنف المضاد وبالتالي الدخول في دوامة الدمار والخراب والتي تكون الشعوب وقودها وبؤرتها وهو ما أثبتته مجريات التاريخ وتجارب الماضي في عدد من الدول العربية.

فعندما تجنح المدرسة السياسية العمانية نحو السلام والحوار والتعاون بين الشعوب لما فيه مصلحتها، فهي تفعل ذلك من منطق الخبير بخبايا السياسة والمدرك بمساراتها والفقيه بتفاصيلها، ولديها الرؤية الثاقبة والقدرة على التنبؤ بمجريات الأحداث وتطوراتها، فكم من أحداث عالمية وإقليمية أثبتت صوابية التوجه السياسي العماني رغم اختلافه مع ما ذهب إليه الآخرون واتّهام عُمان بأنّها تُغرِّد خارج السرب، فنحن لا نختلف مع الآخر لمجرد حب الاختلاف كما يصف البعض، بل نختلف عندما يظهر ما يوجب الاختلاف ونتفق عندما تتوافق الأمور مع رؤيتنا السياسية، لأننا في عُمان مثلما ذكرنا آنفًا فطرنا على مرّ التاريخ أن تكون رؤيتنا سيادية وقرارنا مستقلا وغير تابع خاصة إذا تعلقت هذه القرارات بمصير شعوب، وسيادة دول هنا نقف عند مبادئنا وثوابتنا التي لا يمكن أن تتغير أو تتبدل أو أن نضعها في بازار المساومات أو رهينة عواطف ومزايدات سياسية.

تعليق عبر الفيس بوك