شواهد تربوية مؤسفة

عيسى الرواحي
اتصل بي ليلا من هاتف والده في وقت متأخر قبيل النوم، فرددت عليه مُسلِّما، وبعد التحية قال لي: أتيتك البيت مرتين فلم أجدك، وها أنا أكلمك من هاتف أبي، وأود أن ألتقيك لأمر مهم. فقلت له: إن كان بالإمكان أن نؤجل اللقاء حتى صباح الغد، بيد أنّه كان ملحًا على لقائي. عندما التقيت به قال لي: إنني لم أستطع المذاكرة، فأنا محبط كثيرًا!
قلت له: كيف ذلك؟! وأنت في وقت حرج للغاية حيث إنك في فترة الاختبارات النهائية وفي آخر سنة دراسية لك! هذا كلام غير مقبول إطلاقا. قال لي: إنني أذاكر كثيرا، ومجتهد منذ بداية العام والحمد لله، ولكني مصاب بالقهر بما يحدث في قاعات الاختبارات من غش. إنّه ليس غش الطلاب فحسب، وإنما تغشيش بعض المراقبين لهم، والسماح لهم بالغش. هذا ما وقع في قاعتنا اليوم بشكل واضح صريح، وما تكرر أكثر من مرة مع زملائي في القاعات الأخرى. هذا الموقف ذكرني بموقف شبيه العام المنصرم مع طالب آخر جاءني مستاءً عندما علم أنّ في إحدى قاعات زملائه حدث تغشيش فاضح من قبل أحد المراقبين الذين يدرسون نفس تلك المادة.
وعندما تواصلت مع رئيس المركز حول هذا الشأن، أفادني بعلمه بالأمر متأخرًا، وأنّه لم ينتبه إلى ذلك المراقب كونه معلمًا لنفس تلك المادة، كما أنّه لم يفدني بما اتخذه من إجراء.
والشواهد في هذا كثيرة وليست مبنية على روايات الطلاب أنفسهم، ففي أحد المراكز التي كنت مراقبًا فيها قبل سنوات، حاول زميلي بالقاعة أكثر من مرة أن يعطي الفرصة للطلاب بالغش، وعقب نهاية الاختبار أبلغت رئيس المركز، بطلب واضح صريح: إن تكرر مثل هذا الموقف مع أي مراقب فإما أن يظل مراقبًا هو في القاعة، وأنصرف أنا، وإما أن ينصرف هو، وأظل أنا مراقبا فيها. ولا أزال أتذكر موقفا آخر قام به أحد الطلاب وهو إبلاغ والده بما حدث في قاعتهم من تغشيش أيضًا من قبل أحد المراقبين، وكان والد الطالب ذا منصب رفيع بالدولة، وعلى إثرها تواصل مع أحد المسؤولين بوزارة التربية والتعليم، وفي اليوم التالي فاحت هذه القضيّة في المركز ونوقشت بعد أن تمت زيارتها من قبل مسؤولين في الوزارة، ولكني لا أعلم عن إجراء رادع تم اتخاذه مع المراقب. بل إنّ بعض المراكز أصبح المراقب الأمين فيها كالقاعدة الشاذة بين المراقبين، فليست الأمانة تقتضي عدم التغشيش فحسب، فالانشغال بالهاتف طيلة الوقت، وعدم متابعة الطلاب باستمرار يتنافى مع أمانة المراقبة، وهذا ديدن كثير من المراقبين وللأسف الشديد. وفي إحدى مصادراتنا لأحد هواتف الطلبة تبين لنا أنّه كان يتلقى الإجابات من أحد الأساتذة فترة تأدية الاختبار. وإذا كان هذا واقع بعض أو كثير من مراكز الدبلوم العام، فماذا سنقول عن قاعات امتحانات صفوف النقل، وأين سينتهي بنا المقام في هذا الحديث؟! قال لي أحد الأساتذة الأفاضل: وفي مدرستنا ما بقي من بعض المدرسين إلا أن يقرأ على الطلاب نموذج الإجابة، فقد وصلت مأساة التهاون واللامبالاة والتغشيش تلميحا وتصريحا عند بعض المعلمين إلى وضع مخز معيب. وشبيهٌ بهذا عقب أحد الأساتذة الكرام على مقال لي بعنوان (ظاهرة تسيب الطلاب عقب تأدية الاختبارات) نشرته في ديسمبر الماضي بما نصه: " لا فض فوك... لكن أتمنى أن تتطرق إلى ظاهرة منتشرة على مستوى ولايات السلطنة وهي ظاهرة الغش التي أصبحت ليست مقتصرة على الطلاب كونها حاجة بالنسبة للطالب المهمل، ولكن تعدت للمعلم وإدارات المدارس التي كرست جل جهدها في سبيل إيصال المعلومة للطالب بشتى الطرق في ساعة الاختبار" وفي إحدى المدارس التي كنت أعمل بها مررت بإحدى قاعات الاختبار، فظننت أنّه لا يوجد بها أي مراقب، فقد كانت المأساة واضحة حينما رأيت أنّ المراقبينِ أخذا في الأحاديث الجانبية في إشارة صريحة إلى الطلاب بالغش كيفما أرادوا، ولم يكن لي من حيلة سوى تغيير المنكر باللسان فقط.
وهذا الموقف يتطابق تماما مع مصححي إحدى المواد الدراسية الذين أعربوا عن استيائهم الكبير أمام مدير المدرسة عندما اكتشفوا أنّ إجابات أغلب الطلاب إن لم تكن جميعها تكاد تكون متطابقة تماما. إنّها حقائق مرة وواقع مؤسف أن تعاني اليوم كثير من المدارس عدم المصداقية والنزاهة في واقع درجات الطلاب أو نظام التقويم بشكل عام ليس على محور واحد فحسب بل على عدة محاور، فظاهرة الغش التي هي إحدى كبائر الإثم والذنوب وخيانة للأمانة وتضييع للمسؤولية لم تعد مقتصرة أن يغش الطالب بنفسه أو يسعى إلى ذلك، وإنما كما أشرنا آنفا من شواهد للتمثيل لا للحصر بأنّه قد يجد الضوء الأخضر متاحًا له بالغش من قبل المراقب، وقد يكون الأمر أبعد من ذلك في أن يقوم المراقب بهذه العملية وهو تغشيش الطالب، وقد تكون الحالة أسوأ من ذلك بكثير وذلك عند حضور معلم مادة ذلك الاختبار فيقوم بإعطائهم بعض الإجابات تصريحا وتلميحا، فما أسوأها من خيانة! وما أشده من تضييع للأمانة! في صورة ثانية من صور عدم مصداقية النتائج العامة هي ما يتعلق بواقع درجات التقويم المستمر، وقد تحدثت في هذا الشأن في مقال سابق تحت عنوان (واقع التقويم المستمر في مستويات الطلاب) نشر في فبراير 2015م وطالبت حينها أن يكون إدخال درجات التقويم المستمر قبل بدء اختبارات نهاية الفصل كحال طلبة الدبلوم العام؛ وذلك تفاديا لما يقوم بعض المدرسين أو الإداريين من تعديل ورفع لدرجات الطالب في تقويمه المستمر في حال تبين إخفاقه في درجة الاختبار النهائي، فحتى لا يرسب الطالب في تلك المادة، ولكونه قد يصعب التغيير في درجة الاختبار النهائي؛ فإنه يتم اللجوء إلى تعديل درجة الطالب في التقويم المستمر، وهذا بلا ريب يتنافى مع مصداقية درجة الطالب، ناهيك عن إعطاء كثير من الطلاب درجات تقترب من الدرجة الكلية في التقويم المستمر وكثير منهم قد لا يستحقونها، بل وبعيدون كل البعد عن هذا الاستحقاق.
والصورة الثالثة وهي مسألة الترفيع حتى درجة النجاح، وهذا ما أثار جدلا في أوساط التربويين خلال الفترة الماضية جراء السؤال الذي وجه إلى سماحة الشيخ الخليلي المفتي العام للسلطنة حول هذا الشأن حيث كان السؤال ما نصه: هل يجوز ترفيع الطلاب المتعثرين دراسيا للوصول إلى درجة النجاح؟ فأجاب: هذا من الغش المحرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من غشنا فليس منا" على أنه ليس غشا لفرد فحسب وإنما هو غش للمجتمع والله أعلم. وهنا لا أود الخوض في ترفيع يقتصر على درجتين أو ثلاث أو أربع درجات ربما توجبه اللوائح واﻷنظمة. وإنما عن ترفيع قد يصل إلى عشر درجات وفي أكثر من مادة، بل قد يكون تغييرا كبيرا يتعلق بنسبة النجاح والرسوب في المدرسة الواحدة، فيحدث من التغيير بل التلاعب في النتائج ما ينبئ عن كارثة في أحد أهم أركان العملية التعليمية، وهو التقويم، وشواهدنا في ذلك كثيرة.
ففي مطلع أحد اﻷعوام الدراسية تفاجأت في المدرسة التي كنت معلما فيها بأن نسبة نجاح طلابها قد بلغت 100% وهي مدرسة يعاني أغلب طلابها من ضعف دراسي شديد مشهود له من القريب والبعيد، فلم يكن من كلمة وأنا أودع تلك المدرسة منتقلا إلى مدرسة أخرى إلا تحذير وتحميل إدارة المدرسة عاقبة هذا الفعل الوخيم.
وهذا مثال سرده لي أكثر من معلم في أكثر من مدرسة باستغرابهم بانتقال طلاب إلى الصفوف اﻷعلى، وهم في المواد التي يدرسونهم إياها راسبون، ولم يكونوا أعادوا تلك السنة.
وعند تعقيب أحد الأساتذة على هذا الحوار السريع بقوله: "كلنا في الهّم شرق" أجابه آخر: ما يحدث في محافظتكم لا يقارن بما نسمع عنه في المحافظات الأخرى.
ويعلل عدد غير قليل من اﻹداريين والمعلمين قضية رفع درجات الطلاب ومحاولة رفع نسبة النجاح بما يمكنهم - حتى مع مخالفتها الحقيقة والواقع- هو تفادي زيارات المسؤولين وكثرة اللجان التي تتوالى على المدرسة في حال كانت نسبة الرسوب مرتفعة، وأن هناك مطالبة بين التلميح والتصريح من تلك اللجان والزيارات بتعديل النتائج نحو اﻷفضل، وهذا التعليل في حقيقة اﻷمر حتى مع كونه واقعا فإنّه لا يسوغ ﻹدارة المدرسة هذا اﻹجراء، وليس من حق أي لجنة أو مسؤول التدخل في نتائج الطلاب، وإنما تقتصر مهمتهم على المتابعة والتدقيق والتوصيات فقط، وإن حدث غير ذلك فهو مخالفة صريحة لأنظمة العملية التعليمية، مع أنني لا أتوقع أنّ هناك كلمة أعلى من كلمة المعلم ومدير المدرسة في هذا الشأن، وليس أدل من ذلك عندما رسب أحد الطلاب في إحدى المدارس في نتيجة الدور الثاني، وحاول أكثر من مسؤول الضغط على معلم تلك المادة ومدير المدرسة بتغيير نتيجة الطالب وجعله ناجحًا، لكن كل الوساطات والتدخلات لم تكن موفقة. لقد كان الميدان التربوي في المدارس قبل سنوات يضج بهشاشة نظام التقويم الدراسي والذي كان في مجمله العام لا قيمة له فالطالب ينتقل إلى الصف الأعلى إلا في حدود ضيقة جدا، وبعد تعديله عام 2012م وتطويره، وجعل زمام هذا الركن القويم من العملية التعليمية بيد المعلم كما هو الأصل في ذلك، وأن انتقال الطالب إلى الصف الأعلى مرهون بجده واجتهاده، نصطدم بواقع مؤسف في مدارس كثيرة وذلك بعدم تطبيقه على الوجه الصحيح، والتهاون في هذا الأمر إلى وضع غير مقبول إطلاقا، وقد تحدثت في مقال سابق نشر في مايو 2013م بعنوان (التقويم الدراسي.. أمانة ومسؤولية) أوضحت فيه واقع نظام التقويم الدراسي قبل عام 2012م، وبعدها وكيف تفاءل الميدان التربوي في المدارس بإعادته كسابق عهده، وأنّ أمانة ومسؤولية تطبيقه يقع على عاتق التربويين في المدارس، فالمعلم هو المسؤول عن هذه الأمانة، ومدير المدرسة هو المؤتمن عليها .إنّه ليس من مصلحة أحد أن يعيد الطالب عامًا دراسيًا كاملا، وليس من مصلحة أحد أن يخفق الطالب في امتحانات الدبلوم العام فهذا مما يزعجنا كثيرًا وقد أسهبنا فيه الحديث بكافة جوانبه، ولكن بالمقابل فإنّ انتقال الطالب إلى الصف الأعلى وحصول طالب الدبلوم العام على درجات مرتفعة يجب أن يكون واقعًا فعليا بكامل المصداقيّة والنزاهة بعيدًا كل البعد عن الغش والتدليس وتزوير النتائج، فإن ذلك يتنافى مع كليا مع عدالة الإسلام، وأنظمة البلاد، وبناء الوطن، كما أنّه خيانة للأمانة وتدمير للمجتمع وظلم للبلاد والعباد، وغش الامتحانات كما هو معلوم أشد إثما وأعظم وزرًا من غش المعاملات، وقد تحدثت بشكل موسّع في هذه القضية في كتاب "حديث المدارس" ص47 تحت عنوان (من غشنا فليس منا). إنّ ما سردته من شواهد وأمثلة للغش التي يتسبب فيها المؤتمن عليهم قد عشتها وسمعتها من طلاب ثقات وتربويين عاملين بالمدارس دون تقص أو بحث، ولو جمعت الشواهد وتقصيتها لأعياني الحديث، ولطال بي المقام، وسوق الشواهد كما هو معلوم للتمثيل لا للحصر، ولا مجال في مثل هذا السرد للمطالبة بالدليل، بل ما أجزم به يقينا أنّ واقع الحال أصدق من المقال، كما أنّه قد تكون هناك صور أخطر للغش يحدث من تحت الطاولات وهو ما يطلق عليه بـ (تسريب الاختبارات) قبل وصولها إلى المدارس، وهذا ما تمّ الاعتراف به رسميًا في العام الدراسي (2012-2013م) إنّ نقدنا بهذه اللهجة يأتي من إيماننا العميق بمكانة المعلم السامقة ومنزلته الرفيعة التي طالما أشدنا بها كثيرًا وتحدثنا عنها مرارًا، والتي لا يليق بصاحب هذه المكانة والمنزلة أن يرتكب خطأ بسيطا متعمدًا؛ فكيف عندما يكون الخطأ بهذه الصورة التي تعتبر دمارًا فكرياً وخلقيًا وذبح للقدوة الحسنة ﻷبنائنا الطلاب؟ ناهيك عن أننا نتحدث عن غش في أعظم شيء وهو العلم، وهذا الغش عندما يتعود عليه الطالب بشتى صوره المزرية، ستتواصل سلسلته معه حتى في دراساته العليا بالجامعات والكليات، بل إنّ صور غش طلبة المدارس يعد قليلا ولا يقارن بما يذاع خبره عن صوره القاتمة السواد عند طلبة الكليات والجامعات. وعندما يكون الحال كذلك وهو تفشي الغش وترعرعه في البيئات التعليميّة بمختلف مستوياتها، فإنّما ننتج في حقيقة الأمر موظفين غشاشين مهرة، وكلنا يعلم ما تعانيه البيئات الوظيفيّة في كثير من مؤسساتنا الحكوميّة والخدمية من صور لا تعد ولا تحصى تتنافى مع أخلاق الوظيفة وأمانة القيام بها وسير العمل، وهي تصب في خانة الغش. ختاما فإنّ مما يجب التأكيد عليه في عرض هذه القضية أنّ المخلصين الأوفياء في المدارس هم النسبة الغالبة، ولكن ممن ضيعوا الأمانة وقصروا فيها والذين عنيناهم في مقالنا عدد غير قليل كذلك، ولا ينبغي للمخلصين الدفاع عنهم أو فتح النار لمن يكتب عنهم؛ فإنّما هم شؤم وتعاسة على الميدان التربوي، وفيما يتعلق بحلول هذه القضية فلا ريب أنّ الجميع يكاد يدركها، ولكن من الأهميّة القصوى أن تغرس في نفوس الأبناء منذ مراحل تعليمهم الأولى خطورة الغش وحرمته عند الله، وأن يستشعر كل من له علاقة بأنظمة التقويم بشتى مراحلها عظم الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه، كما يجب أن تكثف إجراءات الرقابة والمتابعة على سير الامتحانات، وتشدد العقوبات على كل من يخالف أنظمتها..

والله المستعان.
issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك