التقشف: خطابات الصدمة الأولى

د. سيف بن ناصر المعمري

قال الشاعر التركي ناظم حكمت يوماً: "أجمل البحار ذاك الذي لم نذهب إليه بعد، وأجمل الأطفال من لم يكبر بعد، وأجمل أيامنا التي لم نعشها بعد، وأجمل ما أريد قوله لم أقله بعد"، نعم هكذا يقول كثير من الشباب الذين لا تزال تتشكل أحلامهم، أجمل أيامنا لم نعشها بعد، ولذا يجدّون في سبيل بلوغ ذلك اليوم الذي قد يراه البعض صعبًا في ظل التحولات الحادة التي لم يكن أحد يوما يتوقعها، فلا شيء يدعو لكل هذا الهلع في المجتمعات الصغيرة، لكن مشيئة الله سبحانه وتعالى عجلت لنا قدرنا الذي كنّا عاجلًا أم آجلاً سنبلغه، فهل نفر منه أم نواجهه بصبرٍ وعلمٍ ودراية وعمل؟ المنطق والعقل يقول إنّه لا مجال للفرار ولابد من المواجهة لكن كيف نواجهه وخطاباتنا شتى وأهدافنا متضاربة؟ هذا هو السؤال الذي لابد أن يطرح في زمن التقشف ونحن لا نزال في بداياته ..

لقد أتعبني كثيراً- وربما آخرين- حالة الارتباك التي عبرت عنها كثير من الخطابات الرسمية والفكرية والمجتمعية حتى الآن، فرغم عمق السؤال لا يزال هناك ما يمكن أن يُشعرنا أننا نُريد أن نواجه الواقع الجديد، والذي أؤمن أنّه لا يرتبط فقط مواجهة مالية بقدر ما يرتبط بمواجهة مؤسساتية وفكرية، وبالتالي لابد لنا أن نقرأ هذه الخطابات بجدية ونحن نودع "عصر النفط" الذي أعطانا ما أعطانا وسلب منّا الكثير، وما يجب أن نقوم به الآن هو استرداد الروح والثقة بالنفس التي سلبها منّا، أود هنا أن أقف على بعض الملاحظات حول الخطابات التي ظهرت حتى الآن في المشهد العام، أجملها في ما يلي:

أولاً/ لا يزال الخطاب الرسمي يُركز على توفير المال من خلال سد أبواب النفقات من ناحية، وإيجاد مصادر سريعة لتوفير بعض المال، لكن حتى الآن لم يظهر أن هناك اتجاهاً لاتخاذ إجراءات طويلة المدى تُقلل من تفاقم آثار الأزمة، وبالتالي فإنّ التعامل مع آثار الأزمة بدلاً من التعامل مع مسبباتـها، واللجوء إلى الحلول الوقتية بدلاً من اللجوء إلى الحلول المستدامة يفاقم من أمدها وتداعياتها، ولا أريد أن أجزم بأنّها لن تكون موجودة في الأشهر القادمة، لأنّها لو لم توجد فذلك يعني أننا ربما سنواجه تداعيات أكبر مما نتوقع.

ثانياً/ هناك خلط كبير في ما يطرح من حلول واقتراحات على مستويات فكرية واقتصادية، بل إنّ البعض يعتقد أنّ ما لم نقم به من تنويع وحلول لكثير من القضايا خلال أكثر من عقدين نستطيع أن ننجزه هذا العام أو العام التالي، وفي هذا مؤشر جدًا خطير في تفكيرنا الاستراتيجي لكثير من القضايا التي نواجهها سواء كانت اقتصادية أم تعليمية أم اجتماعية.

ثالثاً/ ظهر من مضمون هذه الخطابات أننا أمام طريقين في التغلب على انخفاض الإيرادات، وهما الاقتراض الخارجي والداخلي، أو الاعتماد على المستثمرين الأجانب، نريدهم أن يأتوا بأيّ ثمن وبأية تنازلات، نريد رؤوس أموال تضخ حيوية إلى شرايين الاقتصاد، وهذا اتجاه لجأت إليه دول كثيرة منها الدول التي استعرضت تجاربها الناجحة في شهر يناير من هذا العام في هذا العمود، ولكن لابد من طريق ثالث نفكر فيه، لا يجب أن نضع آمالنا في سلتين فقط، ماذا لو لم تكن مفيدة لنا؟

رابعاً/ إنّ الإجراءات التي اتخذت حتى الآن من أجل توفير العجز في الموازنة لا تزال في تأثيراتها الأولى تمس المواطن لأنّه هو المستفيد الأخير من الخدمات، وهذا التأثير سوف يتفاقم شيئاً فشيئاً، مما يخلق مشكلات لابد أن نفكر فيها وحلولها من الآن، سيما تلك التي تمس فئات الدخل المحدود مما يعني أن هناك رابحين وخاسرين، وأخشى ما أخشاه أن يجد المواطن نفسه الضحية الوحيدة لهذه المسار التقشفي، وأن يكون ما في جيبه البسيط من نقود هي الأمل الوحيد لتقليص آثار هذه الأزمة.

خامسا/ هناك بوادر تشير إلى أنّ التقشف لا يفرق بين شيء استراتيجي أو غير استراتيجي، بل إنّ غير الاستراتيجي قد يصبح استراتيجياً، أقصد أن التعليم سوف يتأثر بهذه الإجراءات، سواء من حيث التأهيل والبعثات أو من حيث التوظيف في المؤسسات الأكاديمية، أو في تقليص موازنات الأبحاث، فكيف نستطيع أن نضمن بدائل في هذا القطاع تقلل من تأثير هذا التقشف سيما وأن هناك جامعة عُمان قيد التأسيس، وهناك أيضاً مشروع الإصلاح التربوي الذي سيتضمن تطبيق معايير تغير من كل معالم العملية التربوية، فمن أين ستمول هذه المشاريع في حال تفاقم الأزمة خلال العامين القادمين؟.

سادساً/ يظهر من الخطابات المختلفة وجود أزمة ثقة مؤسساتية لدى مختلف الأطراف، وبالتالي فإنّ أية حلول لا يمكن أن تمضي في جو يُعيق أيّ عمل مشترك أو يعيق الانطلاق من رؤى مشتركة هدفها الصالح العام، وهذا ربما يكون نتاجاً للعديد من العوامل لا يتسع المقام لعرضها في هذا المقال، ولكن لابد من النظر إليها بجدية لأنّ الثقة أهم عامل في إنجاز متطلبات هذه المرحلة، وحده المواطن حتى الآن المُساند الوحيد لكل هذه الإجراءات، كم هو عظيم المواطن العماني؟ صبور في وقت الرخاء ..ومساند بدون حدود في وقت الشدة.

سابعاً/ أخطر ما في الطروحات الحالية على الساحة هي استعادة نفس الفكر الذي ظهر منذ خمس سنوات، حيث تفتح الملفات بالجملة، مما يعني توجيه الاهتمام إلى قضايا أخرى غير ذات أولوية، فيضيع الوقت والجهد الذي كان يمكن أن يستثمر في إحداث معالجات منهجية واقعية تكون مستدامة على مدى طويل، ولذا لم استغرب فتح ملف الجمعيات التعاونية في أحد البرامج الحوارية، هذا الملف غاب لسنين وكنّا ظننا أنّه قد قُبر ولكن فجأة يظهر إلى السطح، ما الذي أعاده للحياة من بعد الممات؟.

لا شك أنّ المتتبع للخطاب المتربط بمسار التعامل مع الأزمة الاقتصادية، يجد أن ما يجري حتى الآن هو ردة فعل قائمة على توفير المال لسد بعض العجز، وليست ردة فعل قائمة على منهجية تحدد نقاط الضعف التي تحتاج إلى معالجة من الجذور، وبالتالي فإنّ أجمل البحار كما قال ناظم حكمت لم نذهب إليه بعد، وفيه سنعرف إن كنّا نجيد السباحة ومصارعة الأمواج أم أننا سنغرق ..ونفقد ذلك اليوم الجميل الذي لم يأتِ بعد.

تعليق عبر الفيس بوك