المتحوّل

أسماء القطيبية

من بين الكتب التي نقرأها دائمًا هناك الكتاب الذي يمكننا وصفه بأنّه الكتاب الأقرب. الكتاب الذي يشبهنا بطريقة ما، ويصف ما نفكر به بالضبط. ذلك الكتاب الذي يظل بعد قراءته يشغل حيزًا من التفكير، ولا يكف عن إثارة الأسئلة بداخلنا. من بين الروايات التي قرأتها كانت رواية "المتحول" أو "المسخ" لفرانز كافكا هي الأكثر تأثيرًا. فهذا الكاتب العبثي في رواية لا تتعدى صفحاتها المائة مزج بين الواقع والخيال، والمعقول واللامعقول، مثيرًا أسئلة وجودية عميقة حول قيمة الإنسان. حيث يستهل كافكا روايته بالعبارة التالية: "استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فِراشه إلى حشرة هائلة الحجم"، ثم يمضي شارحًا شكل الحشرة التي تحول إليها سامسا في دقة تجعل القارئ يتحسس من حين لآخر أطرافه متأكدًا أنّها مازالت في شكلها وحجمها الطبيعيين. و سامسا -الشخصيّة الرئيسية في الرواية- هو شاب يعمل كبائع متجول، يعيل أسرة مكوّنة من أبيه وأمه وأخته الصغيرة.

حين أدرك بعد استيقاظه أنّه لم يعد في هيئة إنسان لم يطرح سامسا السؤال البديهي الذي يخطر في أذهاننا الآن حول سبب تحوله إلى حشرة، بل إنّه بعد أن تأكد أنّ ما يعيشه ليس حلما بدأ يفكر في طريقة للتأقلم مع الوضع الجديد، حيث فكّر في الطريقة المناسبة للحركة بجسد ضخم وسيقان رفيعة، و في كيفية فتح الباب المقفل لإقناع مدير العمل -الذي حضر للسؤال عن سبب تغيبه- بإبقائه على رأس الخدمة. ردة الفعل هذه والتي تبدو غير ملائمة مع حدث التحوّل الغريب عبرت وبطريقة ذكية حسبما أراها عن صورة الإنسان في المجتمعات الحديثة. ففي عالم متداخل تؤثر فيه الأزمات السياسيّة والاقتصادية على الفرد بشكل أو بآخر يصبح السؤال الدائم عن أسباب التغير ( تغير الفرد نفسه نتيجة لمرض أو غيره، وتغير الظروف المحيطة به) أمرًا غير ذي فائدة. فكل ما على الفرد أن يفعله هو أن يكيف نفسه مع الظروف التي يجد نفسه قد وُضع فيها، كما أن العالم أصبح سريعا بحيث إنه إذا ما توقف المرء للتساؤل فإنه سيتيح الفرصة لآخرين لأخذ مكانه.

لعلّ تحوّل بطل الرواية إلى حشرة مقززة لم يكن إلا تحولا فيزيائيًا سبقه شعور عميق بفقده لإنسانيّته، حيث كان سامسا مستاء من الظروف التي يعيشها، وكان يحتقر الحياة التي يجبر فيها على العمل ليل نهار لصالح أثرياء يملاؤن جيوبهم بالأموال، ولصالح عائلة تستغل طاقته لراحة أفرادها، بينما لا يحصل هو إلا على الفتات. هذا الشعور بأنّ قيمته لدى الآخرين ليست سوى في المال الذي يجنيه، دون مراعاة لأي ظروف قد يمر بها كان يشعره بأنّه يتساوى مع أدنى الحيوانات مرتبة. وهذا سبب إضافي لعدم اكتراث الشاب بالتغير الشكلي الذي حصل له.

أراد كافكا بهذه الرواية أن يقدم لنا العائلة الصغير كنموذج للمجتمع الكبير في الخارج، فغضب الأب من تحول الابن الذي كان معيلا للعائلة وعدم إظهاره لأي تعاطف يشير إلى المجتمع المادي الذي لا يقيم وزنا للروابط الأسريّة والاجتماعيّة. كما أنّ تكتم أسرة الأم على تحوله، والحرص كل الحرص على عدم معرفة أحد بالأمر، بحيث أصبحت سرية الأمر أهم من الأمر نفسه، تعبر عن توجّس الناس من الأشخاص ذوي الإعاقات والعاهات، وسعي أهالي هؤلاء إلى مواراتهم خوفًا من الرفض الاجتماعي، وهو أمر وإن قلت حدته إلا أنه ما زال موجودًا تدعمه الخرافات، ويغديه الجهل.

بدت الحياة بالنسبة للشاب بعد تحوله إلى حشرة أشبه بمسرحيّة يراها ولكن لا يستطيع المشاركة فيها، حيث كان عالقًا في تلك الأزمة الوجودية التي لم يستطع فيها أحد أن يتواصل مع جوهره، أو ربما لم يحاول ذلك حقا أحدا. فلقد كان المظهر أهم من حقيقة أنّ هناك ثمة شخص يعي ويشعر خلف الجسد الضخم المخيف. ولانقطاع التواصل وعجز الابن عن العمل تقرر العائلة أنّه لا فائدة من بقاء الابن الحشرة في المنزل، ولابد من التخلص منه.

asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك